في المقال
السابق تحدثت عن وجود "تغيير" إيجابي في "أفكار" الأسرة
الحاكمة حول إدارة الدولة. وفي ختام المقال سألت كيف يمكن استثمار هذا التغيير
لتحقيق نتائج إيجابية؟
وهنا أود أن
أبين أن التخلص من "حكم السماسرة" لوحده، وإن كان خطوة مهمة، إلا أنه لن
يفرز حلا سحريا لمشاكل الكويت بشكل تلقائي، بل لابد من اتخاذ خطوات أخرى مهمة. بعض
الخطوات مستحقة من جانب الأسرة الحاكمة، وبعضها الآخر مطلوب من الحكومة. وهناك
خطوات أخرى مطلوبة من الشعب وأعضاء مجلس الأمة.
أما عن المطلوب
من الأسرة الحاكمة، في رأيي، فهو الإقرار بوجود حاجة ماسة لتطوير فكرها بشأن العمل
الحكومي. ومن قبيل ذلك ما يلي:
إعادة الاعتبار
لمجلس الوزراء من خلال إتاحة المجال لمجلس الوزراء ممارسة صلاحياته الدستورية،
والتخلي عن فكرة أن مجلس الوزراء والوزراء مجرد واجهة تنفيذية للأسرة لا تملك
القرار، وأن مهمة رئيس مجلس الوزراء هي نقل التوجيهات فقط.
إن مجلس الوزراء، حسب الدستور، هو الذي
"يهيمن" على مصالح الدولة، وهو الذي "يرسم" السياسة العامة
للحكومة، ويترتب على ذلك وجوب حصول مجلس الوزراء على استقلالية وحصول رئيس الوزراء
على الحرية الكافية في اختيار الوزراء.
أما عن نهج
تشكيل الحكومة، فالمطلوب، في مرحلة ما بعد الانتخابات تحديدا، تشكيل حكومة سياسية
وليس حكومة "تكنوقراط". إن منصب الوزير يختلف عن منصب وكيل الوزارة. فمهمة
الوزير هي المشاركة في رسم السياسة العامة للحكومة ومتابعة تنفيذها، وهذا لا يتطلب
بالضرورة، على سبيل المثال، أن يكون وزير الصحة طبيب أو أن يكون وزير العدل قانوني
أو أن يكون وزير الأشغال مهندس،،، وهكذا.
ذلك أنه من
المفترض، بمن يشغل منصب الوزير، أن يكون على درجة عالية من الثقافة والمعرفة
والدراية والحكمة والخبرة السياسية على نحو يؤهله للمشاركة في رسم السياسة العامة
للحكومة. أما الجهاز التنفيذي لكل وزارة، فإن التخصص مطلوب.
لقد انخفضت،
بشدة، معايير اختيار الوزراء في العقود الثلاثة السابقة، وآن أوان رفع تلك
المعايير. فمن غير المقبول أن نشاهد وزراء لا يملكون القدرة على الحديث أمام
المايكرفون، أو لا يستطيعون تقديم الرد المناسب على النواب، أو لا يجرون المقابلات
الصحفية إلا إذا "ضبطوا" الأسئلة والإجابات مسبقا.
والمطلوب أيضا،
في منهج تشكيل الوزارة، التخلي عن توزيع الكراسي الوزارية على أساس العائلة
والقبيلة وأصحاب النفوذ (أي ما يعرف هنا بنظام المحاصصة)، فالكويت دولة
"بسيطة" وليست "مركبة"، وهي تتكون من "إقليم" واحد
وليس أقاليم متعددة، وشعبها قليل العدد ومتجانس إلى حد كبير. لذلك فإن فكرة
"المحاصصة" لا مكان لها هنا. وبافتراض وجود "حاجة سياسية"
للمحاصصة، فإن في جميع مكونات المجتمع شخصيات ذات قيمة سياسية تتوفر فيها الصفات
المطلوبة لدخول الوزارة ويمكن لها أن تجمع بين القدرة وتمثيل المكون الذي تنتمي
إليه.
أما عن الحكومة، فإنها متى ما تشكلت وفق "المواصفات
الدستورية"، فالمطلوب منها كثير، بل كثير جدا. فالكويت تواجه مشاكل جسيمة
وخطيرة على المستوى الداخلي، ومطلوب من الحكومة، "إذا يبون يشتغلون صح"،
أن تبحث في تبني استراتيجيات مهمة حول العديد من المسائل نبين هنا بعضها، على سبيل
المثال طبعا وليس الحصر:
كيف تغير الثقافة العامة السائدة في المجتمع المناهضة
للالتزام بالقوانين بشكل عام؟
كيف تصحح مسار التعليم من جهة المناهج وكفاءة الطاقم
التعليمي؟
كيف تطور أنظمة التقاضي في المحاكم وتمنح القضاة المزيد
من الاستقلالية في إصدار أحكامهم وتطور معرفتهم القانونية؟
كيف تعيد كتابة القوانين وفق أحدث الأفكار؟
كيف يمكن تعديل التركيبة السكانية وجعل الكويتيين أغلبية
لا أقلية في بلدهم؟
إن اختزال مشاكل الكويت في العلاقة بين الحكومة ومجلس
الأمة هو مجرد ستار يضعه بعضنا لحجب الرؤية عن حقيقة أوضاعنا. لذلك على الحكومة
القادمة أن تمتلك برنامج عمل يغطي، على الأقل، المدى الزمنى لعمرها الافتراضي وهو
أربع سنوات. برنامج عمل مفصل يتضمن خطط كل وزارة ومشروعاتها خلال السنوات الأربع
القادمة وليس مجرد خطاب عام.
كما يجب على
الحكومة أن تكون جريئة في مقاربة المشاكل، وأن تتمتع بالشفافية الكاملة، وأن تكون
على استعداد لتزويد الرأي العام بكافة الحقائق حول أي موضوع عام، وألا تسعى إلى التستر
على أي خلل أو فضيحة. بمعنى آخر على الحكومة أن تحترم الرأي العام.
كما يتوجب على الحكومة أن
تمتلك زمام المبادرة في كل الأمور، وأن تعتمد الأجهزة التنفيذية في عملها على
البحث العلمي والاستقصاء والاستطلاع، لا على طريقة "والله أنا يتراوالي..."،
أو "أنا أظن..."، أو "يا معود إقضب مينونك..."، وألا تعتمد
على "الوقت" باعتباره "حلاّل المشاكل".
هل طلبت
الكثير؟ نعم أعلم ذلك، لكن بغير هذا الكثير سوف نظل "على طمام المرحوم"،
أو كما قال عباس الشعبي "على طماطم المرحوم"!
أما عن المطلوب من الشعب وأعضاء مجلس الأمة فهذا سيكون، بإذن الله، موضوع المقال المقبل. لكن أود أن أوضح هنا أنه إذا أصبح لدينا مجلس وزراء يتمتع بالاستقلالية، ووزراء من فصيلة "رجال دولة"، وبرنامج حكومي واضح ومفصل ودقيق، أي إذا أصبح لدينا حكومة بالمعنى الصحيح للكلمة، فإنه من السهل جدا تغيير "الثقافة" السائدة في الانتخابات وفي العمل البرلماني. أما إذا بقيت حالة الحكومة كما هي، فلا قيمة لحسن الاختيار في الانتخابات، ولا أهمية لتغيير أسلوب العمل البرلماني، بل على العكس فإن قاعدة "هيك حكومة بدها هيك مجلس" تبقى سارية وصحيحة!