في قراءة أخرى لخطاب صاحب السمو أمير البلاد الذي ألقاه
سمو ولي العهد بتاريخ 22/6/2022، وجدت فيه عبارات توازي في الأهمية تلك التي عبّرت
عن التمسك بالدستور، لكنها ربما لم تحصل على ما تستحقه من اهتمام. فقد ورد في
الخطاب انتقادات حادة جدا للحكومة، إذ جاء فيه:
"... وتخلي التنفيذية عن القيام بدورها
المطلوب منها بالشكل الصحيح".
"... وغياب الدور الحكومي في المتابعة
والمحاسبة وعدم وضوح الرؤية المستقبلية للعمل الحكومي، مما ترتب عليه عرقلة وتأخر
مسيرة التنمية وعدم تحقيق تطلعات المواطنين وآمالهم المشروعة".
ولعل أهمية تلك العبارات لا تكمن في
كونها إدانة للحكومة السابقة فقط، بل في كونها بمثابة فك ارتباط قديم وموروث بين
رئاسة الدولة ومجلس الوزراء. لقد تحدثت كثيرا في مقالات سابقة حول حقيقة أن
الحكومات الكويتية هي مجرد واجهة للأسرة الحاكمة، وأن مجلس الوزراء لا يملك
الاستقلالية الكافية عن رئاسة الدولة، ولذلك لم يتم تحميل الحكومات السابقة
مسؤولية الإخفاق والفشل، بل كان اللوم يوجه دائما لمجلس الأمة وللناخبين فقط.
لقد كان كل من الشيخ صباح السالم،
والشيخ جابر الأحمد والشيخ سعد العبدالله، رحمهم الله جميعا، رؤساء للحكومة وأولياء
للعهد في الوقت نفسه خلال الفترة من عام 1962 حتى عام 2003، حين تم فصل رئاسة
الحكومة عن ولاية العهد وإسناد الأولى إلى الشيخ صباح الأحمد رحمه الله. وقد كان
الشيخ صباح، قبل توليه الإمارة رسميا في العام 2006، بمثابة حاكم البلاد نظرا لمرض
كل من الأمير وولي العهد. وفي تلك المرحلة الممتدة من عام 1962 حتى عام 2006، كان
من الصعب التمييز بين قرارات الحكومة وقرارات "شيوخ".
ومنذ تكليف الشيخ ناصر المحمد
برئاسة الحكومة عام 2006 ومن بعده الشيخ جابر المبارك ثم الشيخ صباح الخالد، انحسرت
الحصانة السياسية عن رئيس مجلس الوزراء أمام الشعب ومجلس الأمة، ولم تعد هناك
حواجز معنوية تعيق توجيه سهام النقد اللاذع لرئيس مجلس الوزراء والمطالبة برحيله،
ولم يمنح لقب "سمو" أي حماية خاصة لرؤساء الوزارة.
وعلى الرغم من محاولات الشيخ صباح الأحمد حماية
كل من ناصر المحمد وجابر المبارك والدفاع عنهما، إلا أنه أدرك في نهاية المطاف
أنهما لا يصلحان للقيام بمهمة "حائط الصد" للأسرة الحاكمة، فتخلى عنهما
تحت الضغط الشعبي الهائل بعد أن طالته هو شخصيا الانتقادات العلنية. وحين تم تعيين
الشيخ صباح الخالد رئيسا للحكومة عام 2019، في عهد الشيخ صباح، كان المأمول أن ينجح
فيما فشل به من سبقه، لكنه أخفق أيضا. وإذ جاء الاستغناء عن الشيخ صباح الخالد في
العهد الحالي، فقد جاء هذا الاستغناء مصحوبا بانتقادات مهمة وردت في خطاب رئيس الدولة
وهو أمر لافت للنظر.
وهنا أطرح السؤال التالي: هل يمكن اعتبار تلك
الانتقادات العلنية الرسمية بمثابة تطور سياسي في فكر الأسرة الحاكمة باتجاه فك التشابك التقليدي بين رئاسة الدولة
ورئاسة الحكومة؟
وبصيغة أخرى: هل
تم التخلي عن فكرة اعتبار الحكومة مجرد واجهة تنفيذية أو "حائط صد"
للأسرة الحاكمة؟
من الصعب الجزم الآن، والإجابة بنعم تحتاج إلى اجتياز
اختبارات واقعية في المستقبل القريب نكتشف من خلالها مدى تمتع مجلس الوزراء
باستقلالية في حدود التنظيم الدستوري.
من جانب آخر، في الدستور الكويتي، لا يستطيع مجلس الأمة مساءلة
الحكومة مجتمعة، فلا وجود للمسؤولية التضامنية للوزراء أمام المجلس. إلا أن المادة
(58) من الدستور تقرر تلك المسؤولية التضامنية لرئيس مجلس الوزراء والوزراء أمام
الأمير، إذ تنص على أن "رئيس مجلس الوزراء والوزراء مسؤولون بالتضامن أمام
الأمير عن السياسة العامة للدولة. كما يسأل كل وزير أمامه عن أعمال وزارته".
وغني عن البيان أن تطبيق هذا النص لن يتم إلا إذا تمتع
مجلس الوزراء باستقلالية عن رئاسة الدولة، فحيث تكون السلطة تكون المسؤولية. أي
إذا لم يكن مجلس الوزراء هو من يقرر السياسة العامة، وإذا لم يكن كل وزير يقرر
أعمال وزارته، فكيف يمكن محاسبتهم أمام الأمير؟ فوفقا للمادة (123) من الدستور
"يهيمن مجلس الوزراء على مصالح الدولة، ويرسم السياسة العامة للحكومة، ويتابع
تنفيذها، ويشرف على سير العمل في الإدارات الحكومية"، وهذا هو جوهر مسؤولية
رئيس مجلس الوزراء والوزراء أمام الأمير وأمام مجلس الأمة أيضا.
إن الانتقادات
التي تضمنها الخطاب الأميري والموجهة إلى الحكومة توحي بأن مجلس الوزراء برئاسة
الشيخ صباح الخالد كان يتمتع بالاستقلالية اللازمة لكنه أخفق في القيام بمهامه،
ومن هنا تم الاستغناء عنه.
إنني أدعو إلى منح مجلس الوزراء الحرية في القيام بمهامه
مع تفعيل المسؤولية التضامنية لرئيس مجلس الوزراء والوزراء أمام الأمير. فمتى ما
رأى الأمير أن هناك خللا في أداء الحكومة فلا داعي للتردد في محاسبتهم وإقالتهم من
مناصبهم، دونما حاجة لانتظار محاسبتهم من قبل مجلس الأمة وتصاعد الاستياء الشعبي
وانطلاق الحراك الاحتجاجي. وفي مسار آخر، إذا ما تبين للأمير أن الاستجوابات
المقدمة لرئيس مجلس الوزراء أو أحد الوزراء تأتي في محلها، فله أن يبادر إلى تفعيل
المسؤولية الفردية أو التضامنية المنصوص عليها في المادة (58).
لقد ورد في المذكرة التفسيرية للدستور توجيه في غاية
الأهمية، إذ يقول المشرع الدستوري:
"... ومن هنا جاء الحرص في الدستور الكويتي على أن
يظل رئيس الدولة أبا لأبناء هذا الوطن جميعا، فنص ابتداء على أن عرش الإمارة وراثي
في أسرة المغفور له مبارك الصباح (مادة 4)، ثم نأى بالأمير عن أي مساءلة سياسية
وجعل ذاته مصونة لا تمس (مادة 54) كما أبعد عنه مسببات التبعة وذلك بالنص على أن
رئيس الدولة يتولى سلطاته الدستورية بواسطة وزرائه (مادة 55) وهم المسؤولون عن
الحكم أمامه (مادة 58) وأمام مجلس الأمة (المادتان 102 و102)".
إن منح
مجلس الوزراء استقلالية في حدود التنظيم الدستوري لعلاقته برئيس الدولة، وتفعيل المسؤولية
التضامنية أمام الأمير، لن يقللا من مكانة الأسرة الحاكمة أبدا، بل على العكس من
ذلك تماما.