مدى اختصاص المحكمة الدستورية في تفسير نصوص الدستور
الدراسة الواردة أدناه هي جزء من كتاب
"المحكمة الدستورية.. نحو إصلاح جذري" تأليف محمد عبدالقادر الجاسم والذي
صدر عن دار قرطاس للنشر عام 2009، ننشرها هنا بمناسبة تقديم الحكومة طلبا
جديدا لتفسير بعض نصوص الدستور مؤخرا.
الاختصاص التفسيري
أنشأت المحكمة الدستورية بموجب القانون رقم (14) لسنة 1973. وقد نصت المادة الأولى منه على اختصاصات المحكمة، حيث قررت "تنشأ محكمة دستورية تختص دون غيرها بتفسير النصوص الدستورية وبالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين والمراسيم بقوانين واللوائح وفي الطعون الخاصة بانتخاب أعضاء مجلس الأمة أو بصحة عضويتهم، ويكون حكم المحكمة ملزما للكافة ولسائر المحاكم".
وهكذا، فإن نص المادة الأولى من القانون واضح وصريح لا لبس فيه بالنسبة لتحديد اختصاصات المحكمة الدستورية، وهي ثلاثة: (1) تفسير نصوص الدستور. (2) الفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين والمراسيم بقوانين واللوائح. (3) الطعون الخاصة بانتخاب أعضاء مجلس الأمة أو بصحة عضويتهم. ويلاحظ أن القانون لم يتضمن أي إشارة إلى اختصاص المحكمة في تفسير القوانين.
وإذا كان اختصاص المحكمة بنظر المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين والمراسيم بقوانين واللوائح لا يثير لبسا باعتباره يتفق مع نص المادة (173) من الدستور، فإن اختصاص المحكمة في تفسير نصوص الدستور يحتاج إلى مناقشة مستفيضة. أما اختصاص المحكمة بنظر الطعون الخاصة بانتخاب أعضاء مجلس الأمة أو بصحة عضويتهم، فسوف نؤجل مناقشته إلى حين.
إذا قارنا بين نص المادة (173) من الدستور، ونص المادة (1) من قانون إنشاء المحكمة الدستورية فيما يتصل باختصاص المحكمة في تفسير نصوص الدستور، سنجد أن المادة (173) من الدستور، وكما أشرنا من قبل، لم تمنح أي جهة هذا الاختصاص. وبالتالي فإن منح القانون رقم (14) لسنة 1973 المحكمة الدستورية الاختصاص في تفسير نصوص الدستور هو تجاوز لنص المادة (173)، إذ لا يجوز للمشرع العادي أن يقرر إنشاء جهة تتولى تفسير نصوص الدستور من دون تفويض من المشرع الدستوري. ولا يكفي الاستناد إلى ما ورد في المذكرة التفسيرية من تعليق حول المادة (173) في شأن اعتبار رجال القضاء هم "الأصل في القيام على وضع التفسير القضائي الصحيح لأحكام القوانين، وفي مقدمتها الدستور قانون القوانين"، فهذه الإشارة وردت في معرض بيان أهمية وجود رجال القضاء في تشكيل المحكمة واعتبارهم الأصل في تشكيل تلك المحكمة لا في معرض بيان اختصاصات المحكمة. أما عبارة "التفسير القضائي" للقوانين والدستور، فهي لا تصلح بذاتها للقول بوجود تفويض من المشرع الدستوري للمشرع العادي لتقرير الاختصاص في تفسير نصوص الدستور للمحكمة الدستورية. ونحن نرى أن المقصود هنا هو ليس تقرير الاختصاص بقدر ما هو بيان طبيعة عمل المحكمة أو الجهة التي تشير إليها المادة (173) من الدستور، وهي طبيعة قانونية تقتضي تفسير القوانين ونصوص الدستور. وهذا التفسير الذي تقتضيه طبيعة عمل المحكمة الدستورية هو التفسير التبعي الذي يدور في إطار المنازعة في دستورية القوانين. فهذه هي الصورة الوحيدة التي يمكن للمحكمة الدستورية أن تباشر من خلالها تفسير نصوص الدستور ذات الصلة بالقانون المنازع في دستوريته، وهي لا تعني أبدا التفسير الأصلي المباشر. فإذا كانت المحكمة الدستورية تملك، وهي بصدد نظر منازعة بدستورية قانون، أن تفسر النصوص الدستورية ذات الصلة توصلا للرأي، فإنها لا تملك نظر منازعة تفسيرية أصلية.
ولو قيل أن العبارة التي وردت في المذكرة التفسيرية تكفي لمنح المحكمة الدستورية الاختصاص بالتفسير المباشر لنصوص الدستور، فإنه ومن باب أولى أن يقال أن تلك المحكمة هي التي تملك أيضا الاختصاص في تفسير القوانين، وأنه بالتالي لا يجوز قيام المحاكم العادية بهذا التفسير بمناسبة المنازعات التي تنظرها. فإذا كان المقصود بالعبارة إسناد اختصاص أصيل ومباشر للمحكمة الدستورية في تفسير نصوص الدستور، فإن لهذه المحكمة أيضا اختصاص أصيل ومباشر في تفسير القوانين. غاية القصد أنه لا يمكن الأخذ ببعض الشرح الوارد في المذكرة التفسيرية وإهمال بعضه الآخر.
على ذلك يمكننا القول بأن المادة (173) من الدستور لم تمنح أي جهة الاختصاص في تفسير نصوص الدستور كاختصاص أصيل ومباشر ومبتدأ. غاية ما هنالك أن المحكمة أو الجهة التي أشار إليها نص المادة المذكورة وشرحه الوارد في المذكرة التفسيرية تملك، وهي في سبيل فحص دستورية القانون فقط، أن تفسر النص المرتبط به في هذه الحدود، لا أن تصدر قرارا مستقلا بتفسير نص دستوري.
وعلى ذلك يمكن القول أن الاختصاص الحالي للحكمة الدستورية في تفسير نصوص الدستور مستمد من نص المادة (1) من قانون إنشاء المحكمة، وهو نص مخالف للدستور كما نرى.
رأي المحكمة الدستورية في اختصاصها التفسيري:
أتيح للمحكمة الدستورية أن تبدي رأيها في مدى دستورية منحها الاختصاص المباشر في تفسير نصوص الدستور مرتين. وعلى الرغم من انتهاء المحكمة إلى أنها تستمد هذا الاختصاص من نص المادة (173) من الدستور لا من المادة (1) من قانون إنشاءها، إلا أن المحكمة اضطربت كثيرا وهي بصدد تبرير رأيها، بل أن تبريرها جاء متناقضا ولا يقوى على حمل النتيجة التي انتهت إليها. وسنجد أن المحكمة رهنت اختصاصها التفسيري بنظر منازعات تتعلق بدستورية القوانين فقط، وهو الأمر الذي سنورده بالتفصيل.
كانت مناسبة الرأي الأول الذي أصدرته المحكمة الدستورية هي القرار الصادر منها في طلب التفسير رقم (1) لسنة 1985 إثر لجوء مجلس الوزراء إليها بطلب مباشر لتفسير نص المادتين (65) و(109) من الدستور حيث دفع مجلس الأمة أمام المحكمة بعدم اختصاصها بنظر طلب التفسير. أما المناسبة الثانية فقد كانت القرار الصادر من المحكمة في طلب التفسير رقم (3) لسنة 1986 إثر تقديم مجلس الوزراء طلب تفسير المادة (173) من الدستور بعد أن تقدم عدد من أعضاء مجلس الأمة باقتراح بقانون بتعديل المادة الأولى من القانون رقم (14) لسنة 1973 على نحو يجرد المحكمة الدستورية من اختصاصها في تفسير نصوص الدستور. وسوف نعرض هنا لرأي المحكمة الدستورية الذي تبنته في القرارين.
القرار التفسيري رقم (1) لسنة 1985
تقدم مجلس الوزراء بطلب تفسير المادتين (65) و(109) من الدستور. ودفع مجلس الأمة أمام المحكمة بعدم اختصاصها بنظر الطلب تأسيسا على أن الاختصاص الأصيل للمحكمة حسب نص المادة (173) من الدستور ينصب على فحص دستورية القوانين واللوائح، وأن هذه المادة لم تسند إلى المحكمة أي اختصاص خارج نطاق رقابتها على دستورية القوانين.
وقد ردت المحكمة هذا الدفع، وخلصت إلى أنه "لما كان تفسير النص الدستوري قد أسند للمحكمة الدستورية بمقتضى المادة الأولى من القانون رقم 14 لسنة 1973 بإنشائها وقد صدر ذلك القانون، بما تضمنه من أحكام، إعمالا لنص المادة (173) من الدستور. والواضح مما ساقته المذكرة التفسيرية عن تلك المادة، أنها أرادت أن تكون المحكمة الدستورية هي الجهة التي يوكل إليها أمر تفسير نصوص الوثيقة الدستورية، على نحو ملزم، يقضي على كل خلاف في الرأي حول تفسير قاعدة دستورية معينة، وإذ كان ذلك فيكون المشرع الدستوري هو الذي جعل المحكمة الدستورية المختصة وحدها بتفسير نصوص الدستور والقوانين الأساسية، ولم يكن ذلك من صنع قانون إنشاء المحكمة..".
القرار التفسيري رقم (3) لسنة 1986
تقدم مجلس الوزراء بطلب تفسير المادة (173) من الدستور وذلك "لبيان مدى ولاية الجهة القضائية (المحكمة الدستورية) التي عينها الدستور في هذه المادة، وما إذا كانت هذه الولاية تشمل- بحكم اللزوم- تفسير نصوص الدستور واستجلاء المعنى الذي قصده المشرع الدستوري منها وإلزام جميع السلطات به على نحو ملزم سواء أكان ذلك بطلب تفسير نص دستوري عند وقوع خلاف حوله بين السلطتين التشريعية والتنفيذية أو حتى داخل أي منهما مما يقتضي رفع الأمر إلى هذه المحكمة لحسم الخلاف وبيان التفسير السليم لهذا النص، أم أن هذه الولاية مقصورة فقط على الطعن في قانون معين بدعوى أن هذا القانون مخالف للدستور". وكان مجلس الوزراء يرى أن اختصاص المحكمة الدستورية في تفسير نصوص الدستور هو اختصاص مستمد مباشرة من نص المادة (173) من الدستور.
أما دفاع مجلس الأمة فقد ذهب إلى أن المحكمة الدستورية لم تتلقى من الدستور إلا اختصاصا واحدا هو الفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين. وأن المحكمة، وهي تملك بالتبعية لهذا الاختصاص الوحيد الأصيل ولاية تفسير نصوص الدستور بقصد استبيان حكمه في المنازعات المعروضة عليها، فإنها لا تتلقى من الدستور أي اختصاص مستقل بتفسير الدستور عن طريق طلبات التفسير المبتدأة والأصلية. وأضاف دفاع مجلس الأمة أن المصدر الوحيد لاختصاص المحكمة الدستورية في تفسير نصوص الدستور هو نص المادة (1) من قانون إنشائها، وهو نص ورد في تشريع عادي يمكن تعديله بتشريع لاحق.
إلا أن المحكمة خلصت في قرارها التفسيري إلى أن "ولاية تفسير النصوص الدستورية قد أُسندت إلى المحكمة الدستورية وحدها بأمر من المشرع الدستوري وإرادته في المادة (173) من الدستور، وما جاء في المذكرة التفسيرية الشارحة لها، وليس من المشرع العادي مما لا يسوغ معه تعديل هذا الاختصاص أو سلبه إلا بنص دستوري معدل للنص الدستوري المقرر لذلك الاختصاص".
ودعما لهذه النتيجة، ساقت المحكمة الدستورية الأسباب التالية:
"وحيث إنه لما كانت الفقرة الأولى من المادة (173) من الدستور قد جرى نصها على أن (يعين القانون الجهة القضائية التي تختص بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح) وإذ كان من مقتضى التفسير تحري القصد التشريعي، والنزول من ظاهر النصوص إلى مكنوناتها، بغية التعرف على فحواها الحقيقي، وأنه على هدى هذه المعاني فإنه بتمحيص عبارة (المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح) يبين أنها تضم في مدلولها ونطاقها المنازعة في فهم النص الدستوري مما يعني اختلاف الرأي في معاني النص ومراميه، سيما وأن من المسلم أن الدعوى الدستورية في عمومها هي دعوى عينية تستهدف تشريع ما لبيان مدى مطابقته لأحكام الدستور، فهي خصومة بشأن النص الدستوري، تنطوي في إطارها الخلاف المتعلق بمجال إعماله بما يقتضي لزوم استبانة نطاقه وصولا لوجه الرأي فيما يثيره في التطبيق من اختلاف. وعلى ذلك فإن المنازعة الدستورية التي أشارت إليها المادة (173) من الدستور ليست قاصرة على مجرد الطعن في دستورية تشريع ما، وإنما تتسع أيضا لتشمل تفسير النص الدستوري، بصورة مستقلة، ذلك أن طلب تفسير نص دستوري إنما يحمل في ثناياه وجود منازعة حوله وتباين وجهات النظر فيما تعنيه عباراته ويكفي في هذا الشأن أن يدور حول النص أكثر من رأي على نحو يغم معه أعمال حكمه، سواء فيما بين الجهات المعنية (مجلس الأمة والحكومة) أو في داخل أي منهما ليسوغ معه الاتجاه إلى الجهة القضائية المختصة (المحكمة الدستورية) لتجلية غموضه وذلك ضمانا لوحدة التطبيق الدستوري واستقراره، ويستند هذا الرأي إنه في بيان اختصاص الجهة القضائية صدر المشرع الدستوري المادة (173) المشار إليها بالعبارة (المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين)، ثم استعمل في الفقرة الثانية - لكفالة حق الحكومة وذوي الشأن في تحريك الدعوى الدستورية - عبارة (الطعن لدي تلك الجهة في دستورية القوانين) وواضح من مقارنة العبارتين أن الأولى أوسع معنى من الثانية، مما يعني أن الفقرة الأولى قصدت أن تكون المنازعة الدستورية شاملة طلب التفسير والطعن في دستورية التشريع في حين أن ما عنته الفقرة الثانية قاصر على الطعن في الدستورية ليس إلا ولو كان المراد من النص الدستوري بفقرتيه غير ذلك لاستعمل المشرع عبارة (تختص بالرقابة القضائية على دستورية القوانين) ليفصل بين الاختصاص بالرقابة والاختصاص بالتفسير، أو اقتصر على عبارة الفقرة الثانية (تختص بالفصل في الطعون في دستورية ...) لما كان ذلك وكان من صور التفسير للنص الدستوري الذي تقوم به المحكمة صور ثلاث، الأولى فيما يطعن على التشريع بعدم مطابقته للنص الدستوري، بما يقتضي ذلك تفسيره لحسم الخلاف الذي ثار حول التشريع المطعون فيه، والثانية إذا ما أريد الطعن على تشريع ما بعدم الدستورية فتقوم الحاجة للجوء إلى المحكمة الدستورية للتعرف أولا على نطاق النص الدستوري وحدوده وضوابطه وصولا لوجه الرأي في الخلاف الشاجر حول التشريع المشكوك في دستوريته لإمكان الطعن فيه، والثالثة إذا ما أريد قبل إصدار تشريع ما التعرف على التفسير الصحيح للنص الدستوري المتصل به لإمكان إعداد مشروع القانون المقصود متطابقًا مع أحكام الدستورية، وهي الصورة التي قال بها الخبير الدستوري بحاشية الصياغة النهائية لنص المادة الأولى من القانون رقم 14/ 1973 (مضبطة الجلسة العاشرة المعقودة بتاريخ 27/ 1/ 1973) - وليس في هذه الصورة ابتداع أسلوب للرقابة السياسية لم يقرره الدستور، وإنما يستهدف بذلك الوقاية من خطر صدور قانون غير دستوري وليس بإمكان الجهة القضائية مباشرة ذلك إلا بناء على طلب الهيئة السياسية المختصة كالهيئة التشريعية أو الهيئة التنفيذية، وتكون الرقابة القضائية حينئذ مرتبطة بالرقابة السياسية ونتيجة لها، وعلى ذلك يصح القول بأن المشرع الدستوري فيما قرره في المادة (173) من الدستور إنما أراد أن يسند للجهة القضائية - المحكمة الدستورية - ولاية تفسير النصوص الدستورية، سواء كان ذلك بصفة أصلية أو تبعا لطعن دستوري على تشريع ما وهو ما ذهبت إليه هذه المحكمة في قرارها السابق رقم 1/ 1985 تفسير دستوري وما قال به من تصدي له من رجال الفقه بالبحث والدراسة.
وحيث إنه تأكيدا لما سلف إيراده ما جاء بالمذكرة التفسيرية للدستور بصدد المادة (173) المشار إليها حينما قالت (آثر الدستور أن يعهد بمراقبة دستورية القوانين واللوائح إلى محكمة خاصة .... بدلاً من أن يترك ذلك لاجتهاد كل محكمة على حدة، مما قد تتعارض معه الآراء في تفسير النصوص الدستورية أو يعرض القوانين واللوائح للشجب دون دراسة لمختلف وجهات النظر والاعتبارات .... وأنه يترك لها القيام على وضع التفسير القضائي الصحيح لأحكام القوانين وفي مقدمتها الدستور، قانون القوانين) مما يتضح معه على وجه اليقين أن المشرع الدستوري أراد أن تكون المحكمة الدستورية هي الجهة التي يوكل إليها أمر تفسير ما غمض من نصوص الوثيقة الدستورية.
وحيث إنه إعمالا لنص المادة (173) من الدستور فقد صدر القانون رقم 14/ 1973 مقررا للمحكمة الدستورية ولاية التفسير للنصوص الدستورية بالإضافة إلى اختصاصها بالفصل في طعون المتعلقة الدستورية، مما يعني أن المحكمة إنما تباشر هذا الاختصاص استقلالا وبصفة أصلية، وقد جاء ذلك القانون ثمرة عمل المجلس النيابي والحكومة، وتجسيدا لاتجاههما ورغبتهما في إصداره على نحو يكفل تنفيذ خطاب المشرع الدستوري بجعل ولاية المحكمة الدستورية شاملة الاختصاص بتفسير النصوص الدستورية بصفة أصلية ومستقلة وهو ما كشفت عنه المناقشات التي دارت داخل المجلس بين أعضائه حول مشرعي قانون إنشاء المحكمة المقدمين من الحكومة والمجلس، كما أكده الخبير الدستوري الذي شارك في المناقشات، وساهم في صياغته وصياغة الدستور من قبل، فقد جاء في رده على بعض استفسارات أعضاء مجلس الأمة حول اختصاصات المحكمة الدستورية ودور المجلس في تقديم الطعون إليها ما يلي (اختصاص المجلس بأن يقدم طعونا إلى المحكمة الدستورية مقصود به بصفة خاصة أمران: الأول الطعون الانتخابية التي تقدم للمجلس فيحيلها إلى المحكمة الدستورية، الأمر الثاني ليس الطعن بمخالفة القوانين العادية للدستور، لأن هذا كما قل العضو المحترم أمر بيد المجلس، إنما حيث يختلف على تفسير مادة دستورية - كما حدث مثلا من قبل بالنسبة للمدة (131) تختلف الآراء في تفسير المادة الدستورية ..... فيريد المجلس قبل أن يصدر قانونا في أمر من الأمور أن يعرف التفسير الصحيح لهذه المادة من المحكمة الدستورية، وهذا منصوص عليه في المادة الأولى من مشروع القانون بعبارة (المحكمة الدستورية تختص بنظر تفسير الدستور) ثم دستورية القوانين المخالفة للدستور، فالطعن الانتخابي والتفسير هما الحالتان اللتان يأتي الطلب فيهما من مجلس الأمة) انتهى وتراجع في ذلك مضبطة الجلسة العاشرة المعقودة في 27/ 1/ 1973.
وحيث إنه لما كان البيّن من نص المادة (173) من الدستور أنه قد ألزم المشرع بتعيين الجهة القضائية المختصة بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين، والتي تدخل فيها المنازعة في فهم النص الدستوري وطلب تفسيره، وفق ما أسلفنا - كما فوض النص المشرع في تحديد اختصاص تلك الجهة، إعمالا للقاعدة العامة المقررة في المادة (164) من الدستور، بما يجب معه على المشرع الالتزام بحدود التفويض، والذي ينبغي أن يقتصر على تنظيم صلاحيات تلك الجهة بالقدر الذي يحفظ لها جوهرها المنصوص عليه في المادة (173) من الدستور، وبغير مساس بها، ومن ثم فإن ولاية المحكمة بتفسير النصوص الدستورية، استقلالا أو تبعا، تكون نابعة من الدستور لا مقرره من المشرع العادي، ما يترتب عليه لزوما عدم المساس بهذا الاختصاص إلا بنص يعدل المادة (173) من الدستور ولا يتأتى ذلك بتشريع عادي يقرره.
حيث إنه لما كان تفسير الوثيقة الدستورية إنما يمثل إحدى الموضوعات الهامة في التطبيق العملي لنصوصها، بما استلزم معه الحرص على تضمينها أيضا لطريقة تفسيرها وحدوده حتى يكون هناك ضمانا لعدم الخروج على قواعدها تحت ستار تفسيرها، الأمر الذي اقتضى معه تضمين المادة (173) موضوع التفسير بما يلزم المشرع بتعيين الجهة التي تقوم بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين والتي تشمل الاختصاص بتفسير النصوص الدستورية، وقد خلا الدستور من نص صريح يخول جهة ما القيام بتفسير النصوص الدستورية غير الجهة القضائية المشار إليها، توكيدا لاختصاصها بذلك التفسير دون سواها وليس من المقبول أن يعهد بتلك الولاية إلى أي جهة أخرى دون الجهة القضائية مع حرص الدستور على إحاطة هذه الجهة بسياج من الاستقلالية وفيض من الضمانات (المادة (163)) من الدستور وكفل حق التقاضي أمامها للجميع (المادة (166)) من الدستور بوصفها مؤتل العدل وإحقاق الحق، ورجال القضاء - على ما قالت به المذكرة التفسيرية للدستور - هم الأصل في القيام على وضع التفسير القضائي الصحيح لأحكام القوانين وفي مقدمتها الدستور، قانون القوانين، بما يستوي معه القول باختصاص المحكمة الدستورية بمهمة التفسير الدستورية على ما سلف بيانه، ولا يرد القول في تقرير هذا الاختصاص للمحكمة على أنه تحكيما لها في خلاف بين السلطتين أو زجها في صراع سياسي، أو إخلال بمبدأ الفصل بين السلطات، ذلك لأن عمل القاضي الدستوري في هذا الصدد إنما هو عمل قضائي من أعمال وظيفته، والمحكمة لا تباشر في ذلك، أو في أعمالها للرقابة إلا وظيفة فنية ذات طابع قانوني مجرد، فهي تتخذ من ظاهر النص التشريعي أساسا لفحص دستوريته، وتستبعد في ذلك كل عنصر غير دستوري وتتجنب إصدار حكم تقويمي على القانون، فهي لا تفتش عن بواعثه ولا تناقش مدى ضرورته أو ملاءمته أو صلاحيته الاجتماعية أو السياسية، المتروك أمره لمطلق تقدير الهيئة التشريعية، وبذلك فلا يحمل ما تباشره على أنه من أعمال التشريع كما أنه لا يمس في قليل أو كثير مبدأ الفصل بين السلطات، طالما أنها تقوم بعملها وفق الإطار الذي رسمه الدستور، وليس في ذلك إهدار للمبدأ ذاته، بل وضع للأمور في نصابها الدستوري الصحيح بما يؤكد المبدأ ويثبته، إذ من المقرر أن استعمال السلطات لوظائفها إنما يكون على الوجه المبين بالدستور، ومن ثم فلا تملك إحدى السلطات أن تهدر أحكام الدستور وأن تتذرع لضمان قرارها من التعقيب على تصرفاتها بمبدأ الفصل بين السلطات، وإلا لصار الأمر بغير ضابط". (انتهى الاقتباس من حكم المحكمة)
وعلى الرغم من إسهاب المحكمة الدستورية في محاولة استنباط ما يدعم رأيها، إلا أنها في الواقع ناقضت في الأسباب ما انتهت إليه في المنطوق. ففي الأسباب قالت المحكمة أن تفسير النص الدستوري له صور ثلاث. وقد حددتها على النحو التالي:
الصورة الأولى فيما يطعن على (التشريع) بعدم مطابقته للنص الدستوري، بما يقتضي ذلك تفسيره لحسم الخلاف الذي ثار حول التشريع المطعون فيه. أي أن المحكمة هنا تشير إلى (الرقابة اللاحقة) وهي الصورة التي وردت في المادة (173) من الدستور.
والصورة الثالثة إذا ما أريد (قبل) إصدار (تشريع) ما التعرف على التفسير الصحيح للنص الدستوري المتصل به لإمكان إعداد مشروع القانون المقصود متطابقا مع أحكام الدستورية. وهذه الصورة ابتدعتها المحكمة الدستورية وهي حالة الرقابة المسبقة على دستورية القوانين.
أما الصورة الثانية من صور التفسير الذي أتت بها المحكمة الدستورية، فهي صورة غامضة غير مفهومة، لا هي رقابة لاحقة لصدور التشريع ولا سابقة عليه. فالمحكمة تشير إلى أن هذه الصورة تتحقق إذا ما أريد الطعن على (تشريع) ما بعدم الدستورية فتقوم الحاجة للجوء إلى المحكمة الدستورية للتعرف أولا على نطاق النص الدستوري وحدوده وضوابطه وصولا لوجه الرأي في الخلاف الشاجر حول التشريع المشكوك في دستوريته لإمكان الطعن فيه. فهي تتحدث، في الصور الثلاث، عن (تشريع). ثم تشير إلى الرغبة في الطعن عليه بعدم الدستورية، أي أن هناك جهة لم تحددها المحكمة تسعى إلى الطعن بعدم دستورية التشريع. ثم تتحدث المحكمة عن الحاجة إلى اللجوء إليها للتعرف على نطاق النص الدستوري حول التشريع المشكوك في دستوريته قبل الطعن عليه. ولم نجد لهذه الصورة أي سند لا في نص المادة (173) من الدستور، ولا في قانون إنشاء المحكمة الدستورية. والغريب في الأمر أن المحكمة لم تحدد هنا من الذي له الحق باللجوء إليها بطلب تفسير نص دستوري تمهيدا للطعن بعدم دستورية تشريع قائم، هل للحكومة ممارسة هذا الحق أم لمجلس الأمة أم للأفراد؟! ثم كيف يستقيم اللجوء إلى المحكمة الدستورية لتفسير نص دستوري مرتبط بتشريع مشكوك في دستوريته من دون الطعن في التشريع ذاته! هل تعني المحكمة أنها يمكن أن تقدم الفتاوى لمن يريد الطعن بعدم دستورية تشريع قائم!
على أي حال، فلو دققنا النظر في الصور الثلاث لتفسير النص الدستوري التي أوردتها المحكمة الدستورية سنجد أنها ترتبط بتشريع صدر أو تشريع لم يصدر بعد. أي أن الصور الثلاث للتفسير هي صور للتفسير التبعي لا التفسير الأصلي المستقل. فضلا عن ذلك، فإنه إذا كانت الصور الثلاث السابقة هي صور تفسير النص الدستوري الذي تقوم به المحكمة، وهي جميعها مرتبطة بالتشريع كما رأينا، فما هو موقف المحكمة الدستورية من القرارات التفسيرية التي أصدرتها من دون أن تكون مرتبطة بتشريع ما؟!
لقد سبق للمحكمة الدستورية أن قبلت القيام بتفسير العديد من مواد الدستور من دون أن يكون لطلب التفسير أدنى صلة بتشريع يراد إصداره أو تشريع قائم مشكوك في دستورية يراد الطعن عليه أو تشريع قائم ومطعون عليه بعدم الدستورية، ومن دون أن يكون لطلب التفسير صلة بمشروع أو اقتراح بقانون قبل صدور قرارها التفسيري المتعلق باختصاصها وبعد صدوره أيضا. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، قيامها بتفسير المادة (65) من الدستور والمتصلة بحق الأمير في اقتراح القوانين، والمادة (99) من الدستور والمتصلة بالسؤال البرلماني، وكذلك فعلت بالنسبة للمادتين (92) و(97) من الدستور والمتصلتين بقواعد التصويت في مجلس الأمة وحساب الأغلبية، وكذلك فعلت بالنسبة للمادة (100) من الدستور والمتصلة بالاستجوابات، والمادة (114) المتصلة بلجان التحقيق البرلمانية، والمادة (145) من الدستور والمتصلة بالميزانية العامة. فكيف تبرر المحكمة الدستورية قبولها طلبات التفسير وإصدار قرارات تفسيرية حول نصوص دستورية ليس لها علاقة بأي صورة من صور التفسير الثلاث التي أوردتها في قرارها التفسيري الخاص بالمادة (1739 من الدستور.
خلاصة الأمر، إن المادة (173) من الدستور لا تمنح المحكمة الدستورية الاختصاص في تفسير نصوص الدستور تفسيرا مستقلا، وأن غاية ما تملك هو التفسير التبعي الذي يدور في إطار منازعة بدستورية تشريع. كما أن قيام المشرع العادي بمنح المحكمة الاختصاص بالتفسير المستقل الذي نصت عليه المادة (1) من قانون إنشاء المحكمة الدستورية، هو مخالف للدستور. فالاختصاص في تفسير نصوص الدستور لا يمكن أن يقرره المشرع العادي بغير تفويض من المشرع الدستوري. فضلا عن ذلك، وحتى لو أخذنا بوجهة نظر المحكمة الدستورية، فإن اختصاصها في التفسير في الصور الثلاث التي أوردتها، إنما هو اختصاص تبعي يدور وجودا وعدما مع التشريع المرتبط بهذا التفسير، بما مؤداه أن المحكمة الدستورية لا تملك الاختصاص في تفسير نصوص دستورية ليست ذات صلة بتشريع صدر أو يراد إصداره. وبالتالي فإن المحكمة الدستورية لا تملك الاختصاص في تفسير نصوص الدستور ذات الصلة بأدوات الرقابة البرلمانية على الحكومة كالسؤال والاستجواب ولجان التحقيق.
وهناك مسألة أخرى في غاية الأهمية بالنسبة للاختصاص التفسيري للمحكمة الدستورية، وهي الحدود التي تقف عندها المحكمة في تفسير النص الدستوري.
تكتسب هذه المسألة أهمية بالغة نظرا لأن تفسير نص الدستور قد يكون مدخلا لتعديل الدستور. فالتفسير الذي تنتهي إليه المحكمة الدستورية تفسير ملزم للسلطات كافة، وبالتالي فإن هذا الإلزام قد يقيد السلطات، كمجلس الأمة على سبيل المثال، وهو بصدد ممارسة أعمال الرقابة البرلمانية على الحكومة. فضلا عن ذلك فإنه، ومن خلال طلبات التفسير، قد يتم استدراج المحكمة الدستورية نحو الدخول في أتون العمل السياسي فتنحاز صوب مجلس الأمة أو الحكومة بما يفقدها حيادها وينزع عنها رداء الوقار القضائي.
وفي الحقيقة، ومن خلال تتبع توجهات المحكمة الدستورية التي تفصح عنها قراراتها الصادرة في تفسير نصوص الدستور، سنكتشف أن تلك المحكمة تسلك اتجاهين متضادين. الاتجاه الأول ساد في الفترة منذ تأسيس المحكمة ولغاية العام 2006 وهو اتجاه تميل المحكمة فيه صوب التدخل في العلاقة بين مجلس الأمة والحكومة، حيث كانت قراراتها التفسيرية تتجاوز التفسير المجرد وتبلغ حد الفصل في منازعات شاجرة بين مجلس الأمة والحكومة. أما الاتجاه الثاني فقد ظهر في العام 2006 ولم يختبر استمراره بعد. وفي هذا الاتجاه الجديد نأت المحكمة الدستورية بنفسها عن التدخل في العلاقة بين مجلس الأمة والحكومة واكتفت بتقديم تفسير مجرد للنص المطلوب تفسيره.
وبالطبع فإن الاتجاه الجديد للمحكمة الدستورية هو الأسلم، ونحن نأمل أن تعززه المحكمة وتعدل نهائيا عن الاتجاه الأول.
وفيما يلي، نقدم نموذج لكل اتجاه من الاتجاهين المتضادين الذين سلكتهما المحكمة الدستورية في قراراتها التفسيرية. ولكن قبل ذلك لنتعرف على الضوابط والحدود النظرية التي وضعتها المحكمة الدستورية لاختصاصها في تفسير نصوص الدستور.
ففي شأن مهمة القاضي الدستوري أثناء تفسير نصوص الدستور، قررت المحكمة أن تقرير اختصاصها في تفسير نصوص الدستور استقلالا ليس "تحكيما لها في خلاف بين السلطتين أو زجها في صراع سياسي، أو إخلالا بمبدأ الفصل بين السلطات، ذلك لأن عمل القاضي الدستوري في هذا الصدد إنما هو عمل قضائي من أعمال وظيفته، والمحكمة لا تباشر في ذلك، أو في إعمالها للرقابة إلا وظيفة فنية ذات طابع قانوني مجرد، فهي تتخذ من ظاهر النص التشريعي أساسا لفحص دستوريته، وتستبعد في ذلك كل عنصر غير دستوري " .
أما بالنسبة لنطاق رقابتها وهي بصدد تفسير النص الدستوري، وعلاقة التفسير بمبدأ الفصل بين السلطات، فقد قررت "إن استعمال السلطات لوظائفها إنما يكون على الوجه المبين بالدستور، ومن ثم فلا تملك إحدى السلطات أن تهدر أحكام الدستور وأن تتذرع لضمان فرارها من التعقيب على تصرفاتها بمبدأ الفصل بين السلطات، وإلا لصار الأمر بغير ضابط" .
وحول حدود ولاية المحكمة في التفسير، قررت المحكمة الدستورية أن ولايتها "في تفسير النصوص الدستورية لا تنبسط إلا على ما كان منصرفا إلى النصوص المطلوب تفسيرها دون أن يتعدى ذلك إلى الخوض في تطبيق تلك النصوص على الواقع الماثل المنوط بالسلطة المختصة إعماله، وإنفاذ حكم الدستور عليه في ضوء ما استظهرته هذه المحكمة من صحيح الأمر في تفسيره" .
وعلى الرغم من تلك الضوابط التي وضعتها المحكمة الدستورية، إلا أنها، أي المحكمة، لم تلتزم بها في اتجاهها الأول، "فاقتربت من ممارسة التشريع تحت ستار التفسير، وأخضعت الأعمال البرلمانية لرقابتها، وتعدت حدود التفسير وقامت بتطبيق مضمون التفسير على الوقائع التي استدعته، كما أنها فصلت في نزاعات سياسية بين الحكومة ومجلس الأمة كما سيتضح لنا حالا.
القرارات التفسيرية التي تمثل الاتجاه الأول:
بتاريخ 25/9/1982 تقدم وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء إلى المحكمة الدستورية بطلب تفسير المادة 99 من الدستور وبيان ما إذا كان حق عضو مجلس الأمة في السؤال وفقا لهذا النص حقا مطلقا لا يحده حد أم أنه مقيد بقيود منها إلا يتعرض لما فيه مساس بكرامة الأشخاص وحرياتهم الشخصية وخاصة ما يتعلق بأسرارهم الخصوصية مثل أسماء المواطنين الذين تستدعي حالتهم المرضية علاجهم في الخارج وحالاتهم المرضية.
وفي معرض التبرير لتقديم طلب التفسير أشار وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء في مذكرته إلى أن أحد أعضاء مجلس الأمة، وجه سؤالا إلى وزير الصحة العامة يطلب فيه تزويده بأسماء وعدد الحالات التي أرسلت للعلاج خارج الكويت، وقد رد وزير الصحة معتذرا عن ذكر الأسماء باعتبار أن ذلك الأمر يعد من قبيل إفشاء الأسرار الطبية. فطلب عضو مجلس الأمة تحويل سؤاله إلى استجواب للوزير.
وبعد أن أحاطت المحكمة بمبررات الطلب خلصت إلى القول إنه "ولا ريب أن حق النائب في السؤال هو مظهر من مظاهر الرقابة البرلمانية التي اشترعها الدستور لتحقيق المصلحة العامة، وهو من الوسائل الفعالة الممنوحة للسلطة التشريعية لمراقبة أعمال وتصرفات السلطة التنفيذية". وأضافت المحكمة "إن حق السؤال ليس حقا مطلقا لا يقيده قيد ولا يحده حد إذ تحوطه بعض الضوابط والاعتبارات منها أن يرد على الوقائع والأمور المطلوب استيضاحها، خاليا من التعليق والجدل والآراء الخاصة وأن لا يتضمن عبارات وألفاظا غير لائقة أو ذكر أشخاص والمساس بكرامتهم وما يتعلق بأمورهم الخاصة". ومضت المحكمة تقول" إن إجابة وزير الصحة على سؤال النائب والخاص بعلاج المواطنين في الخارج يجب ألا تشمل ذكر أسماء المرضى لما سلف بيانه، أما ما يتناوله السؤال الموجه من عضو مجلس الأمة ـ فيما عدا ذكر الأسماء ـ كبيان عدد المرضى الذين أوفدوا في الخارج ونوعية الحالات المرضية وتكاليف العلاج، فإن ذلك مما يدخل في نطاق حق النائب في الرقابة ولا يتنافى مع الضوابط المقررة للسؤال". وخلصت المحكمة في منطوق قرارها إلى "إن حق عضو مجلس الأمة في توجيه السؤال وفق أحكام المادة 99 من الدستور ليس حقا مطلقا وإنما يحده حين ممارسته حق الفرد الدستوري في كفالة حريته الشخصية بما يقتضيه من الحفاظ على كرامته واحترام حياته الخاصة بعدم انتهاك أسراره فيها، ومنها حالته الصحية ومرضه، بما لا يصح معه لمن استودع السر الطبي ـ ومنهم وزير الصحة ـ أن يكشف سر المريض بما في ذلك اسمه دون إذنه أو ترخيص من القانون".
ومن العرض السابق يتضح لنا أن المحكمة لم تتوقف عند حد تفسير النص بل إنها قررت "أن إجابة وزير الصحة على سؤال النائب والخاص بعلاج المواطنين في الخارج يجب ألا تشمل ذكر أسماء المرضى لما سلف بيانه، أما ما يتناوله السؤال الموجه من عضو مجلس الأمة ـ فيما عدا ذكر الأسماء ـ كبيان عدد المرضى الذين أوفدوا في الخارج ونوعية الحالات المرضية وتكاليف العلاج، فإن ذلك مما يدخل في نطاق حق النائب في الرقابة ولا يتنافى مع الضوابط المقررة للسؤال".
ويلاحظ هنا أن المحكمة الدستورية حددت للوزير المعني محتويات إجابته على السؤال الموجه إليه، وقررت ما يجوز وما لا يجوز تضمين الإجابة من بيانات. وهذا التزيد من المحكمة يخرج عن حدود التفسير، بل هو في الواقع تطبيق لتفسيرها على الواقعة التي استدعت تقديم طلب التفسير.
وقد تكرر خروج المحكمة الدستورية عن حدود تفسير النص الدستوري في العديد من قراراتها التفسيرية. إلا أن القرار التفسيري الصادر في طلب التفسير رقم 3 لسنة 2004 يعد من أبرز القرارات التي تجسد خروج المحكمة الدستورية عن حدود تفسير النص الدستوري ودخولها بقوة في ساحة العمل السياسي البحت، وتجاوزها نطاق التفسير.
ففي قرارها الصادر في الطلب الثاني الذي قدمته الحكومة لتفسير المادة 99 من الدستور والمتصلة بالسؤال البرلماني، مارست المحكمة الدستورية في هذا القرار التفسيري دور المشرع الدستوري فابتدعت قيودا وشروطا جديدة تنظم السؤال البرلماني، بل إنها حددت نطاق السؤال والأمور التي لا يجوز أن يتناولها السؤال. فقد قررت أن استعمال حق السؤال البرلماني لا يكون وسيلة لعرقلة أعمال الحكومة وتعطيل مصالح الدولة أو ضياع وقت المجلس وتعطيله عن ممارسة عمله في نظر التشريعات، والمحكمة الدستورية هنا إنما تتحدث في الواقع عن الملاءمة السياسية في ممارسة حق السؤال، وهو أمر يخرج تماما عن حدود ولايتها. ومن جهة أخرى حظرت المحكمة الدستورية أن يكون محل السؤال ما "يتصل بأعمال السلطة التنفيذية في تصريف شؤون الدولة الخارجية وما يرتبط بعلاقاتها الخارجية، وأن الرقابة البرلمانية لا تستطيل "إلى ما عهد إلى السلطة التنفيذية من اختصاص يتصل بالأعمال الخارجية"، كما قررت أنه لا إلزام على الوزير بتقديم مستندات مؤيدة لصحة إجابته.
وفي هذا القرار يمكن القول إن المحكمة الدستورية خرجت عن مبدأ المشروعية حين أجازت لنفسها ابتداع قواعد دستورية جديدة بشأن حدود السؤال البرلماني خاصة ما اتصل منها بما انتهت إليه بشأن عدم جواز أن يكون محل السؤال السياسة الخارجية للدولة. بل إنها دافعت عن التفسير المتعدد للنص الدستوري ذاته، حيث تقول "ليس من شأن قيام المحكمة بتفسير نص دستوري على ضوء نصوص معينة وردت بالدستور ما يحول دون قيامها بتفسير ذات النص في إطار نصوص أخرى بالدستور تتصل به في تطبيقات مختلفة". وقد اعتبرت المحكمة التفسير المتكرر من قبيل "التفسير التكميلي". ونحن نعتقد أن منح المحكمة نفسها صلاحية تعدد التفسير وربطه بما وصفته المحكمة ذاتها "بتطبيقات مختلفة" يؤكد انحراف المحكمة وخروجها عن حدود اختصاصها التفسيري ودخولها دائرة الفصل في المنازعات السياسية ذات التطبيقات المتعددة.
ومن العرض السابق يتضح لنا أن المحكمة الدستورية فرضت رقابتها على الرقابة البرلمانية، ولم تكتف بتفسير نصوص الدستور تفسيرا مجردا بل سعت إلى تطبيق تفسيرها على الوقائع التي استدعت اللجوء إليها، فتحولت قراراتها التفسيرية إلى أحكام قضائية في نزاعات سياسية، و"الملاحظ أن البعد السياسي كثيرا ما يلعب دورا مهما في الاعتبارات التي تراعيها المحكمة وهي في صدد الفصل في المنازعة المطروحة عليها".
القرارات التفسيرية التي تمثل الاتجاه الثاني
ذكرت قبل قليل أن الاتجاه الثاني الذي سلكته المحكمة الدستورية لم تختبر استمراريته بعد، ذلك أن المحكمة الدستورية أفصحت عن هذا الاتجاه في قرارها الصادر في طلب التفسير رقم (8) لسنة 2004 بتاريخ 9 أكتوبر 2006، حيث تقدم نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء ووزير الدولة لشؤون مجلس الأمة بمذكرة إلى المحكمة تضمنت طلب تفسير المواد (100) و(101) و(130) من الدستور، وذلك بالارتباط مع المواد 56/ 1 و(98) و115/ 2 و(117) و(133) من الدستور، والمواد و(133) و(136) و(145) من القانون رقم (12) لسنة 1963 في شأن اللائحة الداخلية لمجلس الأمة، حيث أورد بهذه المذكرة أنه بمناسبة طلب عضو مجلس الأمة (مسلم محمد البراك) استجواب وزير المالية بتاريخ 23/ 2/ 2004، وطلب استجواب آخر مقدم من عضو مجلس الأمة (حسين سيد القلاف) لوزير الصحة بتاريخ 18/ 4/ 2004، أثير في هذا الشأن خلاف بين مجلس الوزراء ومجلس الأمة حول المسائل التالية:
أولا: ما إذا كان حق عضو مجلس الأمة في استجواب الوزير عن الأمور الداخلة في اختصاصه طبقا لحكم المادة 100/ 1 من الدستور، وعن إشرافه على شؤون وزارته، وتنفيذه للسياسة العامة للحكومة فيها، ورسم اتجاهات الوزارة والإشراف على تنفيذها طبقا لحكم المادة (130) من الدستور، ومن ثم مساءلته عن أعمال وزارته طبقا لحكم المادة 101/ 1، حقا مطلقا أو مقيدا بقيد الاختصاص الوزاري الوارد بنصوص الدستور، ومدى جواز استجواب الوزير عن الأعمال التي صدرت منه قبل توليه الوزارة أو من الوزراء السابقين قبله، ومدى جواز استجوابه عن الأعمال التي صدرت عن جهات كفل لها المشرع الاستقلال في ممارسة اختصاصاتها.
ثانيا: ما إذا كان يتعين أن يكون طلب الاستجواب محددا بموضوعات ووقائع وأسانيد معينة، ومدى جواز قيام طالب الاستجواب أو غيره من أعضاء مجلس الأمة بإضافة موضوعات أو وقائع أو أسانيد أخرى لم ترد بالطلب المذكور وذلك أثناء جلسة أو جلسات مناقشته.
ثالثا: ما إذا كان يجوز لعضو مجلس الأمة مقدم طلب الاستجواب معاودة التكلم في موضوعه مرة أخرى في الجلسة المحددة لنظر طرح الثقة بالوزير بعد استجوابه.
رابعا: الأثر الدستوري المترتب على تنازل أو انسحاب أحد مقدمي طلب طرح الثقة بالوزير المستجوب.
وفي معرض تقديم التفسير، وضعت المحكمة في هذا القرار التفسيري ضوابط جديدة في حدود تفسير النصوص الدستورية، وتراجعت عن منهجها السابق في تطبيق مضمون التفسير الذي تنتهي إليه على الوقائع التي استدعت التفسير، فقد قررت أن ما تباشره المحكمة لا يحمل على أنه "من أعمال التشريع أو يمس من قريب أو بعيد بمبدأ الفصل بين السلطات أو ينطوي على إخلال به لاسيما أن المحكمة تقوم بعملها وفق الإطار الذي رسمه لها الدستور، والمحكمة في هذا الشأن لا تباشر في ذلك إلا وظيفة فنية ذات طابع قانوني متخصص مجرد، كما أنها لا تقوم بهذه المهمة بوصفها جهة إفتاء وتقديم المشورة وإبداء الرأي في مسألة تستفتى فيها لم تنحسم بعد ليتدبر المستفتي أمره فيها لانحسار هذا الاختصاص عنها، إنما دورها في إطار ما عقد لها من اختصاص في هذا المضمار يقتصر في المقام الأول على تفسير نصوص الدستور وفق ضوابط محددة مردها إلى عبارات هذه النصوص ودلالاتها والأغراض المقصودة منها بمراعاة موضعها من سياق باقي النصوص التي تتكامل معها، محددة معناها ومرماها كاشفة _المحكمة_ عن حقيقتها، ملتزمة بجوهرها دون إقحام عناصر جديدة عليها أو تغيير محتواها أو النيل من مضمونها أو الخروج عن أهدافها بما لا يعد تفسير المحكمة لهذه النصوص تنقيحا للدستور". واستبعدت المحكمة الخلاف النظري حول نصوص الدستور من دائرة مبررات التفسير.
ومما يلفت النظر في قرار المحكمة أنها انتبهت إلى حدود ولايتها في تفسير النصوص الدستورية فلم تتوغل أو تتمادى في تطبيق التفسير على واقعاته حيث قررت "وإذا كانت هذه المحكمة قد أعملت ولايتها وباشرت اختصاصها بنظر طلب تفسير النصوص الدستورية سالفة الذكر وبينت دلالتها وحقيقة المقصود منها، فإنها تقف عند هذا الحد دون التطرق إلى بيان الحكم الدستوري لتلك النصوص بالنسبة إلى الوقائع والموضوعات التي كانت محلا للاستجواب في شأنها، لانحسار هذا الأمر عن ولايتها".
الاختصاص التفسيري
أنشأت المحكمة الدستورية بموجب القانون رقم (14) لسنة 1973. وقد نصت المادة الأولى منه على اختصاصات المحكمة، حيث قررت "تنشأ محكمة دستورية تختص دون غيرها بتفسير النصوص الدستورية وبالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين والمراسيم بقوانين واللوائح وفي الطعون الخاصة بانتخاب أعضاء مجلس الأمة أو بصحة عضويتهم، ويكون حكم المحكمة ملزما للكافة ولسائر المحاكم".
وهكذا، فإن نص المادة الأولى من القانون واضح وصريح لا لبس فيه بالنسبة لتحديد اختصاصات المحكمة الدستورية، وهي ثلاثة: (1) تفسير نصوص الدستور. (2) الفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين والمراسيم بقوانين واللوائح. (3) الطعون الخاصة بانتخاب أعضاء مجلس الأمة أو بصحة عضويتهم. ويلاحظ أن القانون لم يتضمن أي إشارة إلى اختصاص المحكمة في تفسير القوانين.
وإذا كان اختصاص المحكمة بنظر المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين والمراسيم بقوانين واللوائح لا يثير لبسا باعتباره يتفق مع نص المادة (173) من الدستور، فإن اختصاص المحكمة في تفسير نصوص الدستور يحتاج إلى مناقشة مستفيضة. أما اختصاص المحكمة بنظر الطعون الخاصة بانتخاب أعضاء مجلس الأمة أو بصحة عضويتهم، فسوف نؤجل مناقشته إلى حين.
إذا قارنا بين نص المادة (173) من الدستور، ونص المادة (1) من قانون إنشاء المحكمة الدستورية فيما يتصل باختصاص المحكمة في تفسير نصوص الدستور، سنجد أن المادة (173) من الدستور، وكما أشرنا من قبل، لم تمنح أي جهة هذا الاختصاص. وبالتالي فإن منح القانون رقم (14) لسنة 1973 المحكمة الدستورية الاختصاص في تفسير نصوص الدستور هو تجاوز لنص المادة (173)، إذ لا يجوز للمشرع العادي أن يقرر إنشاء جهة تتولى تفسير نصوص الدستور من دون تفويض من المشرع الدستوري. ولا يكفي الاستناد إلى ما ورد في المذكرة التفسيرية من تعليق حول المادة (173) في شأن اعتبار رجال القضاء هم "الأصل في القيام على وضع التفسير القضائي الصحيح لأحكام القوانين، وفي مقدمتها الدستور قانون القوانين"، فهذه الإشارة وردت في معرض بيان أهمية وجود رجال القضاء في تشكيل المحكمة واعتبارهم الأصل في تشكيل تلك المحكمة لا في معرض بيان اختصاصات المحكمة. أما عبارة "التفسير القضائي" للقوانين والدستور، فهي لا تصلح بذاتها للقول بوجود تفويض من المشرع الدستوري للمشرع العادي لتقرير الاختصاص في تفسير نصوص الدستور للمحكمة الدستورية. ونحن نرى أن المقصود هنا هو ليس تقرير الاختصاص بقدر ما هو بيان طبيعة عمل المحكمة أو الجهة التي تشير إليها المادة (173) من الدستور، وهي طبيعة قانونية تقتضي تفسير القوانين ونصوص الدستور. وهذا التفسير الذي تقتضيه طبيعة عمل المحكمة الدستورية هو التفسير التبعي الذي يدور في إطار المنازعة في دستورية القوانين. فهذه هي الصورة الوحيدة التي يمكن للمحكمة الدستورية أن تباشر من خلالها تفسير نصوص الدستور ذات الصلة بالقانون المنازع في دستوريته، وهي لا تعني أبدا التفسير الأصلي المباشر. فإذا كانت المحكمة الدستورية تملك، وهي بصدد نظر منازعة بدستورية قانون، أن تفسر النصوص الدستورية ذات الصلة توصلا للرأي، فإنها لا تملك نظر منازعة تفسيرية أصلية.
ولو قيل أن العبارة التي وردت في المذكرة التفسيرية تكفي لمنح المحكمة الدستورية الاختصاص بالتفسير المباشر لنصوص الدستور، فإنه ومن باب أولى أن يقال أن تلك المحكمة هي التي تملك أيضا الاختصاص في تفسير القوانين، وأنه بالتالي لا يجوز قيام المحاكم العادية بهذا التفسير بمناسبة المنازعات التي تنظرها. فإذا كان المقصود بالعبارة إسناد اختصاص أصيل ومباشر للمحكمة الدستورية في تفسير نصوص الدستور، فإن لهذه المحكمة أيضا اختصاص أصيل ومباشر في تفسير القوانين. غاية القصد أنه لا يمكن الأخذ ببعض الشرح الوارد في المذكرة التفسيرية وإهمال بعضه الآخر.
على ذلك يمكننا القول بأن المادة (173) من الدستور لم تمنح أي جهة الاختصاص في تفسير نصوص الدستور كاختصاص أصيل ومباشر ومبتدأ. غاية ما هنالك أن المحكمة أو الجهة التي أشار إليها نص المادة المذكورة وشرحه الوارد في المذكرة التفسيرية تملك، وهي في سبيل فحص دستورية القانون فقط، أن تفسر النص المرتبط به في هذه الحدود، لا أن تصدر قرارا مستقلا بتفسير نص دستوري.
وعلى ذلك يمكن القول أن الاختصاص الحالي للحكمة الدستورية في تفسير نصوص الدستور مستمد من نص المادة (1) من قانون إنشاء المحكمة، وهو نص مخالف للدستور كما نرى.
رأي المحكمة الدستورية في اختصاصها التفسيري:
أتيح للمحكمة الدستورية أن تبدي رأيها في مدى دستورية منحها الاختصاص المباشر في تفسير نصوص الدستور مرتين. وعلى الرغم من انتهاء المحكمة إلى أنها تستمد هذا الاختصاص من نص المادة (173) من الدستور لا من المادة (1) من قانون إنشاءها، إلا أن المحكمة اضطربت كثيرا وهي بصدد تبرير رأيها، بل أن تبريرها جاء متناقضا ولا يقوى على حمل النتيجة التي انتهت إليها. وسنجد أن المحكمة رهنت اختصاصها التفسيري بنظر منازعات تتعلق بدستورية القوانين فقط، وهو الأمر الذي سنورده بالتفصيل.
كانت مناسبة الرأي الأول الذي أصدرته المحكمة الدستورية هي القرار الصادر منها في طلب التفسير رقم (1) لسنة 1985 إثر لجوء مجلس الوزراء إليها بطلب مباشر لتفسير نص المادتين (65) و(109) من الدستور حيث دفع مجلس الأمة أمام المحكمة بعدم اختصاصها بنظر طلب التفسير. أما المناسبة الثانية فقد كانت القرار الصادر من المحكمة في طلب التفسير رقم (3) لسنة 1986 إثر تقديم مجلس الوزراء طلب تفسير المادة (173) من الدستور بعد أن تقدم عدد من أعضاء مجلس الأمة باقتراح بقانون بتعديل المادة الأولى من القانون رقم (14) لسنة 1973 على نحو يجرد المحكمة الدستورية من اختصاصها في تفسير نصوص الدستور. وسوف نعرض هنا لرأي المحكمة الدستورية الذي تبنته في القرارين.
القرار التفسيري رقم (1) لسنة 1985
تقدم مجلس الوزراء بطلب تفسير المادتين (65) و(109) من الدستور. ودفع مجلس الأمة أمام المحكمة بعدم اختصاصها بنظر الطلب تأسيسا على أن الاختصاص الأصيل للمحكمة حسب نص المادة (173) من الدستور ينصب على فحص دستورية القوانين واللوائح، وأن هذه المادة لم تسند إلى المحكمة أي اختصاص خارج نطاق رقابتها على دستورية القوانين.
وقد ردت المحكمة هذا الدفع، وخلصت إلى أنه "لما كان تفسير النص الدستوري قد أسند للمحكمة الدستورية بمقتضى المادة الأولى من القانون رقم 14 لسنة 1973 بإنشائها وقد صدر ذلك القانون، بما تضمنه من أحكام، إعمالا لنص المادة (173) من الدستور. والواضح مما ساقته المذكرة التفسيرية عن تلك المادة، أنها أرادت أن تكون المحكمة الدستورية هي الجهة التي يوكل إليها أمر تفسير نصوص الوثيقة الدستورية، على نحو ملزم، يقضي على كل خلاف في الرأي حول تفسير قاعدة دستورية معينة، وإذ كان ذلك فيكون المشرع الدستوري هو الذي جعل المحكمة الدستورية المختصة وحدها بتفسير نصوص الدستور والقوانين الأساسية، ولم يكن ذلك من صنع قانون إنشاء المحكمة..".
القرار التفسيري رقم (3) لسنة 1986
تقدم مجلس الوزراء بطلب تفسير المادة (173) من الدستور وذلك "لبيان مدى ولاية الجهة القضائية (المحكمة الدستورية) التي عينها الدستور في هذه المادة، وما إذا كانت هذه الولاية تشمل- بحكم اللزوم- تفسير نصوص الدستور واستجلاء المعنى الذي قصده المشرع الدستوري منها وإلزام جميع السلطات به على نحو ملزم سواء أكان ذلك بطلب تفسير نص دستوري عند وقوع خلاف حوله بين السلطتين التشريعية والتنفيذية أو حتى داخل أي منهما مما يقتضي رفع الأمر إلى هذه المحكمة لحسم الخلاف وبيان التفسير السليم لهذا النص، أم أن هذه الولاية مقصورة فقط على الطعن في قانون معين بدعوى أن هذا القانون مخالف للدستور". وكان مجلس الوزراء يرى أن اختصاص المحكمة الدستورية في تفسير نصوص الدستور هو اختصاص مستمد مباشرة من نص المادة (173) من الدستور.
أما دفاع مجلس الأمة فقد ذهب إلى أن المحكمة الدستورية لم تتلقى من الدستور إلا اختصاصا واحدا هو الفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين. وأن المحكمة، وهي تملك بالتبعية لهذا الاختصاص الوحيد الأصيل ولاية تفسير نصوص الدستور بقصد استبيان حكمه في المنازعات المعروضة عليها، فإنها لا تتلقى من الدستور أي اختصاص مستقل بتفسير الدستور عن طريق طلبات التفسير المبتدأة والأصلية. وأضاف دفاع مجلس الأمة أن المصدر الوحيد لاختصاص المحكمة الدستورية في تفسير نصوص الدستور هو نص المادة (1) من قانون إنشائها، وهو نص ورد في تشريع عادي يمكن تعديله بتشريع لاحق.
إلا أن المحكمة خلصت في قرارها التفسيري إلى أن "ولاية تفسير النصوص الدستورية قد أُسندت إلى المحكمة الدستورية وحدها بأمر من المشرع الدستوري وإرادته في المادة (173) من الدستور، وما جاء في المذكرة التفسيرية الشارحة لها، وليس من المشرع العادي مما لا يسوغ معه تعديل هذا الاختصاص أو سلبه إلا بنص دستوري معدل للنص الدستوري المقرر لذلك الاختصاص".
ودعما لهذه النتيجة، ساقت المحكمة الدستورية الأسباب التالية:
"وحيث إنه لما كانت الفقرة الأولى من المادة (173) من الدستور قد جرى نصها على أن (يعين القانون الجهة القضائية التي تختص بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح) وإذ كان من مقتضى التفسير تحري القصد التشريعي، والنزول من ظاهر النصوص إلى مكنوناتها، بغية التعرف على فحواها الحقيقي، وأنه على هدى هذه المعاني فإنه بتمحيص عبارة (المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح) يبين أنها تضم في مدلولها ونطاقها المنازعة في فهم النص الدستوري مما يعني اختلاف الرأي في معاني النص ومراميه، سيما وأن من المسلم أن الدعوى الدستورية في عمومها هي دعوى عينية تستهدف تشريع ما لبيان مدى مطابقته لأحكام الدستور، فهي خصومة بشأن النص الدستوري، تنطوي في إطارها الخلاف المتعلق بمجال إعماله بما يقتضي لزوم استبانة نطاقه وصولا لوجه الرأي فيما يثيره في التطبيق من اختلاف. وعلى ذلك فإن المنازعة الدستورية التي أشارت إليها المادة (173) من الدستور ليست قاصرة على مجرد الطعن في دستورية تشريع ما، وإنما تتسع أيضا لتشمل تفسير النص الدستوري، بصورة مستقلة، ذلك أن طلب تفسير نص دستوري إنما يحمل في ثناياه وجود منازعة حوله وتباين وجهات النظر فيما تعنيه عباراته ويكفي في هذا الشأن أن يدور حول النص أكثر من رأي على نحو يغم معه أعمال حكمه، سواء فيما بين الجهات المعنية (مجلس الأمة والحكومة) أو في داخل أي منهما ليسوغ معه الاتجاه إلى الجهة القضائية المختصة (المحكمة الدستورية) لتجلية غموضه وذلك ضمانا لوحدة التطبيق الدستوري واستقراره، ويستند هذا الرأي إنه في بيان اختصاص الجهة القضائية صدر المشرع الدستوري المادة (173) المشار إليها بالعبارة (المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين)، ثم استعمل في الفقرة الثانية - لكفالة حق الحكومة وذوي الشأن في تحريك الدعوى الدستورية - عبارة (الطعن لدي تلك الجهة في دستورية القوانين) وواضح من مقارنة العبارتين أن الأولى أوسع معنى من الثانية، مما يعني أن الفقرة الأولى قصدت أن تكون المنازعة الدستورية شاملة طلب التفسير والطعن في دستورية التشريع في حين أن ما عنته الفقرة الثانية قاصر على الطعن في الدستورية ليس إلا ولو كان المراد من النص الدستوري بفقرتيه غير ذلك لاستعمل المشرع عبارة (تختص بالرقابة القضائية على دستورية القوانين) ليفصل بين الاختصاص بالرقابة والاختصاص بالتفسير، أو اقتصر على عبارة الفقرة الثانية (تختص بالفصل في الطعون في دستورية ...) لما كان ذلك وكان من صور التفسير للنص الدستوري الذي تقوم به المحكمة صور ثلاث، الأولى فيما يطعن على التشريع بعدم مطابقته للنص الدستوري، بما يقتضي ذلك تفسيره لحسم الخلاف الذي ثار حول التشريع المطعون فيه، والثانية إذا ما أريد الطعن على تشريع ما بعدم الدستورية فتقوم الحاجة للجوء إلى المحكمة الدستورية للتعرف أولا على نطاق النص الدستوري وحدوده وضوابطه وصولا لوجه الرأي في الخلاف الشاجر حول التشريع المشكوك في دستوريته لإمكان الطعن فيه، والثالثة إذا ما أريد قبل إصدار تشريع ما التعرف على التفسير الصحيح للنص الدستوري المتصل به لإمكان إعداد مشروع القانون المقصود متطابقًا مع أحكام الدستورية، وهي الصورة التي قال بها الخبير الدستوري بحاشية الصياغة النهائية لنص المادة الأولى من القانون رقم 14/ 1973 (مضبطة الجلسة العاشرة المعقودة بتاريخ 27/ 1/ 1973) - وليس في هذه الصورة ابتداع أسلوب للرقابة السياسية لم يقرره الدستور، وإنما يستهدف بذلك الوقاية من خطر صدور قانون غير دستوري وليس بإمكان الجهة القضائية مباشرة ذلك إلا بناء على طلب الهيئة السياسية المختصة كالهيئة التشريعية أو الهيئة التنفيذية، وتكون الرقابة القضائية حينئذ مرتبطة بالرقابة السياسية ونتيجة لها، وعلى ذلك يصح القول بأن المشرع الدستوري فيما قرره في المادة (173) من الدستور إنما أراد أن يسند للجهة القضائية - المحكمة الدستورية - ولاية تفسير النصوص الدستورية، سواء كان ذلك بصفة أصلية أو تبعا لطعن دستوري على تشريع ما وهو ما ذهبت إليه هذه المحكمة في قرارها السابق رقم 1/ 1985 تفسير دستوري وما قال به من تصدي له من رجال الفقه بالبحث والدراسة.
وحيث إنه تأكيدا لما سلف إيراده ما جاء بالمذكرة التفسيرية للدستور بصدد المادة (173) المشار إليها حينما قالت (آثر الدستور أن يعهد بمراقبة دستورية القوانين واللوائح إلى محكمة خاصة .... بدلاً من أن يترك ذلك لاجتهاد كل محكمة على حدة، مما قد تتعارض معه الآراء في تفسير النصوص الدستورية أو يعرض القوانين واللوائح للشجب دون دراسة لمختلف وجهات النظر والاعتبارات .... وأنه يترك لها القيام على وضع التفسير القضائي الصحيح لأحكام القوانين وفي مقدمتها الدستور، قانون القوانين) مما يتضح معه على وجه اليقين أن المشرع الدستوري أراد أن تكون المحكمة الدستورية هي الجهة التي يوكل إليها أمر تفسير ما غمض من نصوص الوثيقة الدستورية.
وحيث إنه إعمالا لنص المادة (173) من الدستور فقد صدر القانون رقم 14/ 1973 مقررا للمحكمة الدستورية ولاية التفسير للنصوص الدستورية بالإضافة إلى اختصاصها بالفصل في طعون المتعلقة الدستورية، مما يعني أن المحكمة إنما تباشر هذا الاختصاص استقلالا وبصفة أصلية، وقد جاء ذلك القانون ثمرة عمل المجلس النيابي والحكومة، وتجسيدا لاتجاههما ورغبتهما في إصداره على نحو يكفل تنفيذ خطاب المشرع الدستوري بجعل ولاية المحكمة الدستورية شاملة الاختصاص بتفسير النصوص الدستورية بصفة أصلية ومستقلة وهو ما كشفت عنه المناقشات التي دارت داخل المجلس بين أعضائه حول مشرعي قانون إنشاء المحكمة المقدمين من الحكومة والمجلس، كما أكده الخبير الدستوري الذي شارك في المناقشات، وساهم في صياغته وصياغة الدستور من قبل، فقد جاء في رده على بعض استفسارات أعضاء مجلس الأمة حول اختصاصات المحكمة الدستورية ودور المجلس في تقديم الطعون إليها ما يلي (اختصاص المجلس بأن يقدم طعونا إلى المحكمة الدستورية مقصود به بصفة خاصة أمران: الأول الطعون الانتخابية التي تقدم للمجلس فيحيلها إلى المحكمة الدستورية، الأمر الثاني ليس الطعن بمخالفة القوانين العادية للدستور، لأن هذا كما قل العضو المحترم أمر بيد المجلس، إنما حيث يختلف على تفسير مادة دستورية - كما حدث مثلا من قبل بالنسبة للمدة (131) تختلف الآراء في تفسير المادة الدستورية ..... فيريد المجلس قبل أن يصدر قانونا في أمر من الأمور أن يعرف التفسير الصحيح لهذه المادة من المحكمة الدستورية، وهذا منصوص عليه في المادة الأولى من مشروع القانون بعبارة (المحكمة الدستورية تختص بنظر تفسير الدستور) ثم دستورية القوانين المخالفة للدستور، فالطعن الانتخابي والتفسير هما الحالتان اللتان يأتي الطلب فيهما من مجلس الأمة) انتهى وتراجع في ذلك مضبطة الجلسة العاشرة المعقودة في 27/ 1/ 1973.
وحيث إنه لما كان البيّن من نص المادة (173) من الدستور أنه قد ألزم المشرع بتعيين الجهة القضائية المختصة بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين، والتي تدخل فيها المنازعة في فهم النص الدستوري وطلب تفسيره، وفق ما أسلفنا - كما فوض النص المشرع في تحديد اختصاص تلك الجهة، إعمالا للقاعدة العامة المقررة في المادة (164) من الدستور، بما يجب معه على المشرع الالتزام بحدود التفويض، والذي ينبغي أن يقتصر على تنظيم صلاحيات تلك الجهة بالقدر الذي يحفظ لها جوهرها المنصوص عليه في المادة (173) من الدستور، وبغير مساس بها، ومن ثم فإن ولاية المحكمة بتفسير النصوص الدستورية، استقلالا أو تبعا، تكون نابعة من الدستور لا مقرره من المشرع العادي، ما يترتب عليه لزوما عدم المساس بهذا الاختصاص إلا بنص يعدل المادة (173) من الدستور ولا يتأتى ذلك بتشريع عادي يقرره.
حيث إنه لما كان تفسير الوثيقة الدستورية إنما يمثل إحدى الموضوعات الهامة في التطبيق العملي لنصوصها، بما استلزم معه الحرص على تضمينها أيضا لطريقة تفسيرها وحدوده حتى يكون هناك ضمانا لعدم الخروج على قواعدها تحت ستار تفسيرها، الأمر الذي اقتضى معه تضمين المادة (173) موضوع التفسير بما يلزم المشرع بتعيين الجهة التي تقوم بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين والتي تشمل الاختصاص بتفسير النصوص الدستورية، وقد خلا الدستور من نص صريح يخول جهة ما القيام بتفسير النصوص الدستورية غير الجهة القضائية المشار إليها، توكيدا لاختصاصها بذلك التفسير دون سواها وليس من المقبول أن يعهد بتلك الولاية إلى أي جهة أخرى دون الجهة القضائية مع حرص الدستور على إحاطة هذه الجهة بسياج من الاستقلالية وفيض من الضمانات (المادة (163)) من الدستور وكفل حق التقاضي أمامها للجميع (المادة (166)) من الدستور بوصفها مؤتل العدل وإحقاق الحق، ورجال القضاء - على ما قالت به المذكرة التفسيرية للدستور - هم الأصل في القيام على وضع التفسير القضائي الصحيح لأحكام القوانين وفي مقدمتها الدستور، قانون القوانين، بما يستوي معه القول باختصاص المحكمة الدستورية بمهمة التفسير الدستورية على ما سلف بيانه، ولا يرد القول في تقرير هذا الاختصاص للمحكمة على أنه تحكيما لها في خلاف بين السلطتين أو زجها في صراع سياسي، أو إخلال بمبدأ الفصل بين السلطات، ذلك لأن عمل القاضي الدستوري في هذا الصدد إنما هو عمل قضائي من أعمال وظيفته، والمحكمة لا تباشر في ذلك، أو في أعمالها للرقابة إلا وظيفة فنية ذات طابع قانوني مجرد، فهي تتخذ من ظاهر النص التشريعي أساسا لفحص دستوريته، وتستبعد في ذلك كل عنصر غير دستوري وتتجنب إصدار حكم تقويمي على القانون، فهي لا تفتش عن بواعثه ولا تناقش مدى ضرورته أو ملاءمته أو صلاحيته الاجتماعية أو السياسية، المتروك أمره لمطلق تقدير الهيئة التشريعية، وبذلك فلا يحمل ما تباشره على أنه من أعمال التشريع كما أنه لا يمس في قليل أو كثير مبدأ الفصل بين السلطات، طالما أنها تقوم بعملها وفق الإطار الذي رسمه الدستور، وليس في ذلك إهدار للمبدأ ذاته، بل وضع للأمور في نصابها الدستوري الصحيح بما يؤكد المبدأ ويثبته، إذ من المقرر أن استعمال السلطات لوظائفها إنما يكون على الوجه المبين بالدستور، ومن ثم فلا تملك إحدى السلطات أن تهدر أحكام الدستور وأن تتذرع لضمان قرارها من التعقيب على تصرفاتها بمبدأ الفصل بين السلطات، وإلا لصار الأمر بغير ضابط". (انتهى الاقتباس من حكم المحكمة)
وعلى الرغم من إسهاب المحكمة الدستورية في محاولة استنباط ما يدعم رأيها، إلا أنها في الواقع ناقضت في الأسباب ما انتهت إليه في المنطوق. ففي الأسباب قالت المحكمة أن تفسير النص الدستوري له صور ثلاث. وقد حددتها على النحو التالي:
الصورة الأولى فيما يطعن على (التشريع) بعدم مطابقته للنص الدستوري، بما يقتضي ذلك تفسيره لحسم الخلاف الذي ثار حول التشريع المطعون فيه. أي أن المحكمة هنا تشير إلى (الرقابة اللاحقة) وهي الصورة التي وردت في المادة (173) من الدستور.
والصورة الثالثة إذا ما أريد (قبل) إصدار (تشريع) ما التعرف على التفسير الصحيح للنص الدستوري المتصل به لإمكان إعداد مشروع القانون المقصود متطابقا مع أحكام الدستورية. وهذه الصورة ابتدعتها المحكمة الدستورية وهي حالة الرقابة المسبقة على دستورية القوانين.
أما الصورة الثانية من صور التفسير الذي أتت بها المحكمة الدستورية، فهي صورة غامضة غير مفهومة، لا هي رقابة لاحقة لصدور التشريع ولا سابقة عليه. فالمحكمة تشير إلى أن هذه الصورة تتحقق إذا ما أريد الطعن على (تشريع) ما بعدم الدستورية فتقوم الحاجة للجوء إلى المحكمة الدستورية للتعرف أولا على نطاق النص الدستوري وحدوده وضوابطه وصولا لوجه الرأي في الخلاف الشاجر حول التشريع المشكوك في دستوريته لإمكان الطعن فيه. فهي تتحدث، في الصور الثلاث، عن (تشريع). ثم تشير إلى الرغبة في الطعن عليه بعدم الدستورية، أي أن هناك جهة لم تحددها المحكمة تسعى إلى الطعن بعدم دستورية التشريع. ثم تتحدث المحكمة عن الحاجة إلى اللجوء إليها للتعرف على نطاق النص الدستوري حول التشريع المشكوك في دستوريته قبل الطعن عليه. ولم نجد لهذه الصورة أي سند لا في نص المادة (173) من الدستور، ولا في قانون إنشاء المحكمة الدستورية. والغريب في الأمر أن المحكمة لم تحدد هنا من الذي له الحق باللجوء إليها بطلب تفسير نص دستوري تمهيدا للطعن بعدم دستورية تشريع قائم، هل للحكومة ممارسة هذا الحق أم لمجلس الأمة أم للأفراد؟! ثم كيف يستقيم اللجوء إلى المحكمة الدستورية لتفسير نص دستوري مرتبط بتشريع مشكوك في دستوريته من دون الطعن في التشريع ذاته! هل تعني المحكمة أنها يمكن أن تقدم الفتاوى لمن يريد الطعن بعدم دستورية تشريع قائم!
على أي حال، فلو دققنا النظر في الصور الثلاث لتفسير النص الدستوري التي أوردتها المحكمة الدستورية سنجد أنها ترتبط بتشريع صدر أو تشريع لم يصدر بعد. أي أن الصور الثلاث للتفسير هي صور للتفسير التبعي لا التفسير الأصلي المستقل. فضلا عن ذلك، فإنه إذا كانت الصور الثلاث السابقة هي صور تفسير النص الدستوري الذي تقوم به المحكمة، وهي جميعها مرتبطة بالتشريع كما رأينا، فما هو موقف المحكمة الدستورية من القرارات التفسيرية التي أصدرتها من دون أن تكون مرتبطة بتشريع ما؟!
لقد سبق للمحكمة الدستورية أن قبلت القيام بتفسير العديد من مواد الدستور من دون أن يكون لطلب التفسير أدنى صلة بتشريع يراد إصداره أو تشريع قائم مشكوك في دستورية يراد الطعن عليه أو تشريع قائم ومطعون عليه بعدم الدستورية، ومن دون أن يكون لطلب التفسير صلة بمشروع أو اقتراح بقانون قبل صدور قرارها التفسيري المتعلق باختصاصها وبعد صدوره أيضا. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، قيامها بتفسير المادة (65) من الدستور والمتصلة بحق الأمير في اقتراح القوانين، والمادة (99) من الدستور والمتصلة بالسؤال البرلماني، وكذلك فعلت بالنسبة للمادتين (92) و(97) من الدستور والمتصلتين بقواعد التصويت في مجلس الأمة وحساب الأغلبية، وكذلك فعلت بالنسبة للمادة (100) من الدستور والمتصلة بالاستجوابات، والمادة (114) المتصلة بلجان التحقيق البرلمانية، والمادة (145) من الدستور والمتصلة بالميزانية العامة. فكيف تبرر المحكمة الدستورية قبولها طلبات التفسير وإصدار قرارات تفسيرية حول نصوص دستورية ليس لها علاقة بأي صورة من صور التفسير الثلاث التي أوردتها في قرارها التفسيري الخاص بالمادة (1739 من الدستور.
خلاصة الأمر، إن المادة (173) من الدستور لا تمنح المحكمة الدستورية الاختصاص في تفسير نصوص الدستور تفسيرا مستقلا، وأن غاية ما تملك هو التفسير التبعي الذي يدور في إطار منازعة بدستورية تشريع. كما أن قيام المشرع العادي بمنح المحكمة الاختصاص بالتفسير المستقل الذي نصت عليه المادة (1) من قانون إنشاء المحكمة الدستورية، هو مخالف للدستور. فالاختصاص في تفسير نصوص الدستور لا يمكن أن يقرره المشرع العادي بغير تفويض من المشرع الدستوري. فضلا عن ذلك، وحتى لو أخذنا بوجهة نظر المحكمة الدستورية، فإن اختصاصها في التفسير في الصور الثلاث التي أوردتها، إنما هو اختصاص تبعي يدور وجودا وعدما مع التشريع المرتبط بهذا التفسير، بما مؤداه أن المحكمة الدستورية لا تملك الاختصاص في تفسير نصوص دستورية ليست ذات صلة بتشريع صدر أو يراد إصداره. وبالتالي فإن المحكمة الدستورية لا تملك الاختصاص في تفسير نصوص الدستور ذات الصلة بأدوات الرقابة البرلمانية على الحكومة كالسؤال والاستجواب ولجان التحقيق.
وهناك مسألة أخرى في غاية الأهمية بالنسبة للاختصاص التفسيري للمحكمة الدستورية، وهي الحدود التي تقف عندها المحكمة في تفسير النص الدستوري.
تكتسب هذه المسألة أهمية بالغة نظرا لأن تفسير نص الدستور قد يكون مدخلا لتعديل الدستور. فالتفسير الذي تنتهي إليه المحكمة الدستورية تفسير ملزم للسلطات كافة، وبالتالي فإن هذا الإلزام قد يقيد السلطات، كمجلس الأمة على سبيل المثال، وهو بصدد ممارسة أعمال الرقابة البرلمانية على الحكومة. فضلا عن ذلك فإنه، ومن خلال طلبات التفسير، قد يتم استدراج المحكمة الدستورية نحو الدخول في أتون العمل السياسي فتنحاز صوب مجلس الأمة أو الحكومة بما يفقدها حيادها وينزع عنها رداء الوقار القضائي.
وفي الحقيقة، ومن خلال تتبع توجهات المحكمة الدستورية التي تفصح عنها قراراتها الصادرة في تفسير نصوص الدستور، سنكتشف أن تلك المحكمة تسلك اتجاهين متضادين. الاتجاه الأول ساد في الفترة منذ تأسيس المحكمة ولغاية العام 2006 وهو اتجاه تميل المحكمة فيه صوب التدخل في العلاقة بين مجلس الأمة والحكومة، حيث كانت قراراتها التفسيرية تتجاوز التفسير المجرد وتبلغ حد الفصل في منازعات شاجرة بين مجلس الأمة والحكومة. أما الاتجاه الثاني فقد ظهر في العام 2006 ولم يختبر استمراره بعد. وفي هذا الاتجاه الجديد نأت المحكمة الدستورية بنفسها عن التدخل في العلاقة بين مجلس الأمة والحكومة واكتفت بتقديم تفسير مجرد للنص المطلوب تفسيره.
وبالطبع فإن الاتجاه الجديد للمحكمة الدستورية هو الأسلم، ونحن نأمل أن تعززه المحكمة وتعدل نهائيا عن الاتجاه الأول.
وفيما يلي، نقدم نموذج لكل اتجاه من الاتجاهين المتضادين الذين سلكتهما المحكمة الدستورية في قراراتها التفسيرية. ولكن قبل ذلك لنتعرف على الضوابط والحدود النظرية التي وضعتها المحكمة الدستورية لاختصاصها في تفسير نصوص الدستور.
ففي شأن مهمة القاضي الدستوري أثناء تفسير نصوص الدستور، قررت المحكمة أن تقرير اختصاصها في تفسير نصوص الدستور استقلالا ليس "تحكيما لها في خلاف بين السلطتين أو زجها في صراع سياسي، أو إخلالا بمبدأ الفصل بين السلطات، ذلك لأن عمل القاضي الدستوري في هذا الصدد إنما هو عمل قضائي من أعمال وظيفته، والمحكمة لا تباشر في ذلك، أو في إعمالها للرقابة إلا وظيفة فنية ذات طابع قانوني مجرد، فهي تتخذ من ظاهر النص التشريعي أساسا لفحص دستوريته، وتستبعد في ذلك كل عنصر غير دستوري " .
أما بالنسبة لنطاق رقابتها وهي بصدد تفسير النص الدستوري، وعلاقة التفسير بمبدأ الفصل بين السلطات، فقد قررت "إن استعمال السلطات لوظائفها إنما يكون على الوجه المبين بالدستور، ومن ثم فلا تملك إحدى السلطات أن تهدر أحكام الدستور وأن تتذرع لضمان فرارها من التعقيب على تصرفاتها بمبدأ الفصل بين السلطات، وإلا لصار الأمر بغير ضابط" .
وحول حدود ولاية المحكمة في التفسير، قررت المحكمة الدستورية أن ولايتها "في تفسير النصوص الدستورية لا تنبسط إلا على ما كان منصرفا إلى النصوص المطلوب تفسيرها دون أن يتعدى ذلك إلى الخوض في تطبيق تلك النصوص على الواقع الماثل المنوط بالسلطة المختصة إعماله، وإنفاذ حكم الدستور عليه في ضوء ما استظهرته هذه المحكمة من صحيح الأمر في تفسيره" .
وعلى الرغم من تلك الضوابط التي وضعتها المحكمة الدستورية، إلا أنها، أي المحكمة، لم تلتزم بها في اتجاهها الأول، "فاقتربت من ممارسة التشريع تحت ستار التفسير، وأخضعت الأعمال البرلمانية لرقابتها، وتعدت حدود التفسير وقامت بتطبيق مضمون التفسير على الوقائع التي استدعته، كما أنها فصلت في نزاعات سياسية بين الحكومة ومجلس الأمة كما سيتضح لنا حالا.
القرارات التفسيرية التي تمثل الاتجاه الأول:
بتاريخ 25/9/1982 تقدم وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء إلى المحكمة الدستورية بطلب تفسير المادة 99 من الدستور وبيان ما إذا كان حق عضو مجلس الأمة في السؤال وفقا لهذا النص حقا مطلقا لا يحده حد أم أنه مقيد بقيود منها إلا يتعرض لما فيه مساس بكرامة الأشخاص وحرياتهم الشخصية وخاصة ما يتعلق بأسرارهم الخصوصية مثل أسماء المواطنين الذين تستدعي حالتهم المرضية علاجهم في الخارج وحالاتهم المرضية.
وفي معرض التبرير لتقديم طلب التفسير أشار وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء في مذكرته إلى أن أحد أعضاء مجلس الأمة، وجه سؤالا إلى وزير الصحة العامة يطلب فيه تزويده بأسماء وعدد الحالات التي أرسلت للعلاج خارج الكويت، وقد رد وزير الصحة معتذرا عن ذكر الأسماء باعتبار أن ذلك الأمر يعد من قبيل إفشاء الأسرار الطبية. فطلب عضو مجلس الأمة تحويل سؤاله إلى استجواب للوزير.
وبعد أن أحاطت المحكمة بمبررات الطلب خلصت إلى القول إنه "ولا ريب أن حق النائب في السؤال هو مظهر من مظاهر الرقابة البرلمانية التي اشترعها الدستور لتحقيق المصلحة العامة، وهو من الوسائل الفعالة الممنوحة للسلطة التشريعية لمراقبة أعمال وتصرفات السلطة التنفيذية". وأضافت المحكمة "إن حق السؤال ليس حقا مطلقا لا يقيده قيد ولا يحده حد إذ تحوطه بعض الضوابط والاعتبارات منها أن يرد على الوقائع والأمور المطلوب استيضاحها، خاليا من التعليق والجدل والآراء الخاصة وأن لا يتضمن عبارات وألفاظا غير لائقة أو ذكر أشخاص والمساس بكرامتهم وما يتعلق بأمورهم الخاصة". ومضت المحكمة تقول" إن إجابة وزير الصحة على سؤال النائب والخاص بعلاج المواطنين في الخارج يجب ألا تشمل ذكر أسماء المرضى لما سلف بيانه، أما ما يتناوله السؤال الموجه من عضو مجلس الأمة ـ فيما عدا ذكر الأسماء ـ كبيان عدد المرضى الذين أوفدوا في الخارج ونوعية الحالات المرضية وتكاليف العلاج، فإن ذلك مما يدخل في نطاق حق النائب في الرقابة ولا يتنافى مع الضوابط المقررة للسؤال". وخلصت المحكمة في منطوق قرارها إلى "إن حق عضو مجلس الأمة في توجيه السؤال وفق أحكام المادة 99 من الدستور ليس حقا مطلقا وإنما يحده حين ممارسته حق الفرد الدستوري في كفالة حريته الشخصية بما يقتضيه من الحفاظ على كرامته واحترام حياته الخاصة بعدم انتهاك أسراره فيها، ومنها حالته الصحية ومرضه، بما لا يصح معه لمن استودع السر الطبي ـ ومنهم وزير الصحة ـ أن يكشف سر المريض بما في ذلك اسمه دون إذنه أو ترخيص من القانون".
ومن العرض السابق يتضح لنا أن المحكمة لم تتوقف عند حد تفسير النص بل إنها قررت "أن إجابة وزير الصحة على سؤال النائب والخاص بعلاج المواطنين في الخارج يجب ألا تشمل ذكر أسماء المرضى لما سلف بيانه، أما ما يتناوله السؤال الموجه من عضو مجلس الأمة ـ فيما عدا ذكر الأسماء ـ كبيان عدد المرضى الذين أوفدوا في الخارج ونوعية الحالات المرضية وتكاليف العلاج، فإن ذلك مما يدخل في نطاق حق النائب في الرقابة ولا يتنافى مع الضوابط المقررة للسؤال".
ويلاحظ هنا أن المحكمة الدستورية حددت للوزير المعني محتويات إجابته على السؤال الموجه إليه، وقررت ما يجوز وما لا يجوز تضمين الإجابة من بيانات. وهذا التزيد من المحكمة يخرج عن حدود التفسير، بل هو في الواقع تطبيق لتفسيرها على الواقعة التي استدعت تقديم طلب التفسير.
وقد تكرر خروج المحكمة الدستورية عن حدود تفسير النص الدستوري في العديد من قراراتها التفسيرية. إلا أن القرار التفسيري الصادر في طلب التفسير رقم 3 لسنة 2004 يعد من أبرز القرارات التي تجسد خروج المحكمة الدستورية عن حدود تفسير النص الدستوري ودخولها بقوة في ساحة العمل السياسي البحت، وتجاوزها نطاق التفسير.
ففي قرارها الصادر في الطلب الثاني الذي قدمته الحكومة لتفسير المادة 99 من الدستور والمتصلة بالسؤال البرلماني، مارست المحكمة الدستورية في هذا القرار التفسيري دور المشرع الدستوري فابتدعت قيودا وشروطا جديدة تنظم السؤال البرلماني، بل إنها حددت نطاق السؤال والأمور التي لا يجوز أن يتناولها السؤال. فقد قررت أن استعمال حق السؤال البرلماني لا يكون وسيلة لعرقلة أعمال الحكومة وتعطيل مصالح الدولة أو ضياع وقت المجلس وتعطيله عن ممارسة عمله في نظر التشريعات، والمحكمة الدستورية هنا إنما تتحدث في الواقع عن الملاءمة السياسية في ممارسة حق السؤال، وهو أمر يخرج تماما عن حدود ولايتها. ومن جهة أخرى حظرت المحكمة الدستورية أن يكون محل السؤال ما "يتصل بأعمال السلطة التنفيذية في تصريف شؤون الدولة الخارجية وما يرتبط بعلاقاتها الخارجية، وأن الرقابة البرلمانية لا تستطيل "إلى ما عهد إلى السلطة التنفيذية من اختصاص يتصل بالأعمال الخارجية"، كما قررت أنه لا إلزام على الوزير بتقديم مستندات مؤيدة لصحة إجابته.
وفي هذا القرار يمكن القول إن المحكمة الدستورية خرجت عن مبدأ المشروعية حين أجازت لنفسها ابتداع قواعد دستورية جديدة بشأن حدود السؤال البرلماني خاصة ما اتصل منها بما انتهت إليه بشأن عدم جواز أن يكون محل السؤال السياسة الخارجية للدولة. بل إنها دافعت عن التفسير المتعدد للنص الدستوري ذاته، حيث تقول "ليس من شأن قيام المحكمة بتفسير نص دستوري على ضوء نصوص معينة وردت بالدستور ما يحول دون قيامها بتفسير ذات النص في إطار نصوص أخرى بالدستور تتصل به في تطبيقات مختلفة". وقد اعتبرت المحكمة التفسير المتكرر من قبيل "التفسير التكميلي". ونحن نعتقد أن منح المحكمة نفسها صلاحية تعدد التفسير وربطه بما وصفته المحكمة ذاتها "بتطبيقات مختلفة" يؤكد انحراف المحكمة وخروجها عن حدود اختصاصها التفسيري ودخولها دائرة الفصل في المنازعات السياسية ذات التطبيقات المتعددة.
ومن العرض السابق يتضح لنا أن المحكمة الدستورية فرضت رقابتها على الرقابة البرلمانية، ولم تكتف بتفسير نصوص الدستور تفسيرا مجردا بل سعت إلى تطبيق تفسيرها على الوقائع التي استدعت اللجوء إليها، فتحولت قراراتها التفسيرية إلى أحكام قضائية في نزاعات سياسية، و"الملاحظ أن البعد السياسي كثيرا ما يلعب دورا مهما في الاعتبارات التي تراعيها المحكمة وهي في صدد الفصل في المنازعة المطروحة عليها".
القرارات التفسيرية التي تمثل الاتجاه الثاني
ذكرت قبل قليل أن الاتجاه الثاني الذي سلكته المحكمة الدستورية لم تختبر استمراريته بعد، ذلك أن المحكمة الدستورية أفصحت عن هذا الاتجاه في قرارها الصادر في طلب التفسير رقم (8) لسنة 2004 بتاريخ 9 أكتوبر 2006، حيث تقدم نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء ووزير الدولة لشؤون مجلس الأمة بمذكرة إلى المحكمة تضمنت طلب تفسير المواد (100) و(101) و(130) من الدستور، وذلك بالارتباط مع المواد 56/ 1 و(98) و115/ 2 و(117) و(133) من الدستور، والمواد و(133) و(136) و(145) من القانون رقم (12) لسنة 1963 في شأن اللائحة الداخلية لمجلس الأمة، حيث أورد بهذه المذكرة أنه بمناسبة طلب عضو مجلس الأمة (مسلم محمد البراك) استجواب وزير المالية بتاريخ 23/ 2/ 2004، وطلب استجواب آخر مقدم من عضو مجلس الأمة (حسين سيد القلاف) لوزير الصحة بتاريخ 18/ 4/ 2004، أثير في هذا الشأن خلاف بين مجلس الوزراء ومجلس الأمة حول المسائل التالية:
أولا: ما إذا كان حق عضو مجلس الأمة في استجواب الوزير عن الأمور الداخلة في اختصاصه طبقا لحكم المادة 100/ 1 من الدستور، وعن إشرافه على شؤون وزارته، وتنفيذه للسياسة العامة للحكومة فيها، ورسم اتجاهات الوزارة والإشراف على تنفيذها طبقا لحكم المادة (130) من الدستور، ومن ثم مساءلته عن أعمال وزارته طبقا لحكم المادة 101/ 1، حقا مطلقا أو مقيدا بقيد الاختصاص الوزاري الوارد بنصوص الدستور، ومدى جواز استجواب الوزير عن الأعمال التي صدرت منه قبل توليه الوزارة أو من الوزراء السابقين قبله، ومدى جواز استجوابه عن الأعمال التي صدرت عن جهات كفل لها المشرع الاستقلال في ممارسة اختصاصاتها.
ثانيا: ما إذا كان يتعين أن يكون طلب الاستجواب محددا بموضوعات ووقائع وأسانيد معينة، ومدى جواز قيام طالب الاستجواب أو غيره من أعضاء مجلس الأمة بإضافة موضوعات أو وقائع أو أسانيد أخرى لم ترد بالطلب المذكور وذلك أثناء جلسة أو جلسات مناقشته.
ثالثا: ما إذا كان يجوز لعضو مجلس الأمة مقدم طلب الاستجواب معاودة التكلم في موضوعه مرة أخرى في الجلسة المحددة لنظر طرح الثقة بالوزير بعد استجوابه.
رابعا: الأثر الدستوري المترتب على تنازل أو انسحاب أحد مقدمي طلب طرح الثقة بالوزير المستجوب.
وفي معرض تقديم التفسير، وضعت المحكمة في هذا القرار التفسيري ضوابط جديدة في حدود تفسير النصوص الدستورية، وتراجعت عن منهجها السابق في تطبيق مضمون التفسير الذي تنتهي إليه على الوقائع التي استدعت التفسير، فقد قررت أن ما تباشره المحكمة لا يحمل على أنه "من أعمال التشريع أو يمس من قريب أو بعيد بمبدأ الفصل بين السلطات أو ينطوي على إخلال به لاسيما أن المحكمة تقوم بعملها وفق الإطار الذي رسمه لها الدستور، والمحكمة في هذا الشأن لا تباشر في ذلك إلا وظيفة فنية ذات طابع قانوني متخصص مجرد، كما أنها لا تقوم بهذه المهمة بوصفها جهة إفتاء وتقديم المشورة وإبداء الرأي في مسألة تستفتى فيها لم تنحسم بعد ليتدبر المستفتي أمره فيها لانحسار هذا الاختصاص عنها، إنما دورها في إطار ما عقد لها من اختصاص في هذا المضمار يقتصر في المقام الأول على تفسير نصوص الدستور وفق ضوابط محددة مردها إلى عبارات هذه النصوص ودلالاتها والأغراض المقصودة منها بمراعاة موضعها من سياق باقي النصوص التي تتكامل معها، محددة معناها ومرماها كاشفة _المحكمة_ عن حقيقتها، ملتزمة بجوهرها دون إقحام عناصر جديدة عليها أو تغيير محتواها أو النيل من مضمونها أو الخروج عن أهدافها بما لا يعد تفسير المحكمة لهذه النصوص تنقيحا للدستور". واستبعدت المحكمة الخلاف النظري حول نصوص الدستور من دائرة مبررات التفسير.
ومما يلفت النظر في قرار المحكمة أنها انتبهت إلى حدود ولايتها في تفسير النصوص الدستورية فلم تتوغل أو تتمادى في تطبيق التفسير على واقعاته حيث قررت "وإذا كانت هذه المحكمة قد أعملت ولايتها وباشرت اختصاصها بنظر طلب تفسير النصوص الدستورية سالفة الذكر وبينت دلالتها وحقيقة المقصود منها، فإنها تقف عند هذا الحد دون التطرق إلى بيان الحكم الدستوري لتلك النصوص بالنسبة إلى الوقائع والموضوعات التي كانت محلا للاستجواب في شأنها، لانحسار هذا الأمر عن ولايتها".
وهكذا رأينا أن الاختصاص التفسيري للمحكمة الدستورية يثير العديد من
المشكلات مثل مدى دستورية اختصاصها بتفسير نصوص الدستور، وحدود ونطاق
وضوابط التفسير بما يستدعي التفكير الجدي في نزع هذا الاختصاص من المحكمة
الدستورية.