مدى دستورية تدوير وزير المالية
أثار تعيين السيد بدر الحميضي، وزير المالية
السابق، كوزير للنفط بعد أن تقدم النائب الدكتور ضيف الله بورمية باستجواب
له يتصل بأعمال وتصرفات منسوب إليه قيامه بها إبان توليه وزارة المالية،
أثار هذا التعيين مسألتين: الأولى مدى دستورية نقل الوزير من وزارته بعد
تقديم الاستجوب وإسناد حقيبة وزارية جديدة له من دون استقالة. والثانية
مصير الاستجواب وهل يبقى قائما حتى بعد "التدوير"؟
في البداية لابد من الإشارة إلى أن الاستجواب هو من أهم أدوات الرقابة البرلمانية على أعمال الوزراء، وفيه تتجلى المسؤولية السياسية للوزير أمام مجلس الأمة. وفي هذا الصدد قررت المحكمة الدستورية في قرارها الصادر في طلب التفسير رقم 8 لسنة 2004 الصادر بتاريخ 9 أكتوبر 2006 والمتصل بتفسير المادة 100 من الدستور، أن حق الاستجواب "هو أكبر مظاهر ما للسلطة التشريعية من الرقابة على السلطة التنفيذية، إذ تتجلى فيه المسؤولية السياسية بأجلى مظاهرها، فالنظام الدستوري قائم على مبدأ المسؤولية الوزارية أمام المجلس النيابي وإشراك الأمة في إدارة شؤون البلاد والإشراف على وضع قوانينها ومراقبة تنفيذها ومدى التزام الحكومة في أعمالها وتصرفاتها بحدودها، والطريقة لتحقيق هذا المبدأ هي مناقشة الحكومة الحساب، وليس الاستجواب إلا محققًا لهذا الغرض".
وإذا كان الدستور ولائحة مجلس الأمة قد نظما إجراءات الاستجواب ومواعيد مناقشته ونتائجه، فإنه يلزم القول أن تطبيق النصوص الدستورية، أيا كان موضوعها، لا يتم بمعزل عن غاياتها وأهدافها، كما يجب أن يأتي هذا التطبيق منسجما مع روح الدستور وجوهره. وفي هذا الإطار ليس من اللائق إطلاقا ممارسة التحايل على نصوص الدستور أو السعي للالتفاف عليها. كما لا يليق بسلطات الدولة أن تتعمد، وعن بصر وبصيرة، إزهاق روح الدستور استجابة لدواعي الانفلات السياسي عبر انتهازية الفهم والتطبيق لنصوصه.
وقد قررت المحكمة الدستورية في قرارها التفسيري المشار إليه سلفا أنه "وإن كان لكل نص مضمون مستقل إلا أن ذلك لا يعزله عن باقي النصوص الأخرى، بل يتعين أن يكون تفسيره متساندًا معها، وذلك بفهم مدلوله على نحو يقيم بينها التوافق، وينأى بها عن التعارض، وبالنظر إليها بوصفها وحدة واحدة، متآلفة فيما بينها، متجانسة معانيها، متضافرة مراميها، يكمل بعضها بعضًا بما لا ينفلت معها متطلبات تطبيقها أو يحيد بها عن الغاية المقصودة منها، فالنصوص لا تفهم معزولة بعضها عن بعض، إنما تتأتى دلالة أي منها في ضوء ما تفيده دلالة النصوص الأخرى من معانٍ شاملة". كما قررت أيضا أن الدستور جعل " استعمال السلطات لوظائفها ينتظمه دائمًا التعاون المتبادل بينها على أساس احترام كل منها لأحكام الدستور، والنزول على أوامره ونواهيه".
وبإنزال القواعد السابقة على واقعة "تدوير" وزير المالية بعد تقديم استجواب له وإسناد حقيبة وزارة أخرى له من دون تقديم استقالته، يمكن القول أن هذا "التدوير" ليس إلا محاولة للتخلص من الرقابة البرلمانية وإلغاء فاعلية الاستجواب كأداة رقابية. ولو قلنا بجواز هذا الأمر فإن المحصلة النهائية له هو الحيلولة بين مجلس الأمة واستجواب الوزراء. فمعنى إجازة "التدوير" في حالة وزير المالية هو أنه يمكن للحكومة مواجهة كل استجواب يقدم لوزير عن طريق "تدويره" وبذلك لن يتم في الواقع استجواب أي وزير إطلاقا، وتضحى الرقابة البرلمانية بلا معنى ومجرد نصوص فارغة لا قيمة عملية لها. وقد قررت المحكمة الدستورية في القرار المشار إليه "أن رقابة مجلس الأمة على أعمال الحكومة وتصرفاتها - والتي تتجسد صورها المتعددة وأدواتها في السؤال والاستجواب والتحقيق - هي من مظاهر التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ومن مقتضيات النظام الدستوري، ومن خصائصه الجوهرية، ومستلزماته الذي يقوم على أساسه نظام الحكم، متخذًا هذا النظام من مبدأ المسؤولية السياسية الفردية للوزراء أمام مجلس الأمة وتحديدا مسؤولية كل منهم عن أعماله خيارًا، فحسب الأمة أن الوزراء مسؤولون أمام نوابها، جاعلاً من ذلك إطارًا يوفر للحكم طابعه الشعبي".
وعلى هدي هذا التصوير يمكن القول بلا تردد أن أي سلوك تقوم به أي سلطة يقود نحو تفريغ النظام الدستوري من مقتضياته وتجريده من خصائصه الجوهرية، ومن أهمها المسؤولية السياسية الفردية للوزراء، هو سلوك يخرج عن إطار الدستورية. ولا يسعف الحكومة هنا القول بأنه لا يوجد نص في الدستور يمنع "تدوير" الوزير المستجوب، "فعدم" وجود نص صريح مباشر يمنع التصرف لا يؤدي إلى إباحة التصرف، ذلك أن النصوص الدستورية متساندة ولها غاية لا يجوز تجاهلها وإهدارها تحت أي حجة أو ذريعة. وإذا كان النظام الدستوري الكويتي "قائم على مبدأ المسؤولية الوزارية أمام المجلس النيابي وإشراك الأمة في إدارة شؤون البلاد والإشراف على وضع قوانينها ومراقبة تنفيذها ومدى التزام الحكومة في أعمالها وتصرفاتها بحدوده" كما تقرر المحكمة الدستورية، فإن "عدم" وجود نص "يمنع" تدوير الوزير المستجوب لا يبيح إهدار مبدأ المسؤولية الوزارية التي لا تتحقق إلا من خلال تمكين مجلس الأمة من محاسبة الوزير. فالرقابة البرلمانية من الخصائص الجوهرية لنظامنا الدستوري، ولا يجوز، بحال من الأحوال، تفريغها من مضمونها والالتفاف على أحكامها والتحايل عليها وتجريد مجلس الأمة من سلطاته.
وإذا فحصنا نصوص لائحة مجلس الأمة المنظمة للاستجواب نجد أن المادة 142 منها تنص على أنه "يسقط الاستجواب بتخلي من وجه إليه الاستجواب عن منصبه.." وقد يقال ان "تدوير" الوزير المستجوب هو من قبيل التخلي عن المنصب، وبالتالي فإن "التدوير" أمر جائز ويؤدي إلى سقوط الاستجواب. غير أن هذا الفهم لنص المادة المشار إليها فهم قاصر. فالتخلي عن المنصب لا يعني التخلي عن الحقيبة الوزارية والانتقال إلى حقيبة أخرى، إنما المقصود بالتخلي هنا التخلي عن المنصب الوزاري، أي خروج الوزير المستجوب من الوزارة نهائيا. ودليلنا على ذلك أن المشرع الدستوري حين استخدم كلمة "التخلي" في المادة 103 من الدستور إنما كان يشير إلى زوال الصفة الوزارية. فقد نصت تلك المادة على أنه "إذا تخلى رئيس مجلس الوزراء أو الوزير عن منصبه لأي سبب من الأسباب يستمر في تصريف العاجل من شؤون منصبه لحين تعيين خلفه". فالمعنى الدستوري للتخلي عن المنصب هو زوال الصفة الوزارية لا شغل حقيبة وزارية أخرى. وهذا هو الاتجاه الذي تبنته المحكمة الدستورية، فبعد أن أشارت تلك المحكمة إلى الأساس القانوني للاستجوابات وبينت عناصرها الموضوعية والزمنية، قررت في قرارها المشار غليه من قبل أن الأساس القانوني لحق الاستجواب هو "الرغبة في تحقيق المسؤولية الوزارية السياسية أمام المجلس النيابي بطريقة فعالة، وبعبارة أخرى تحقيق رقابة الأمة على أعمال وأداء الحكومة". وأوضحت المحكمة أن مقتضى العنصر الزمني في الاستجواب هو "أن تكون الأعمال والتصرفات المراد استجواب الوزير عنها قد صدرت منه أو من أحد الأشخاص التابعين له بصفته هذه خلال فترة ولايته للوزارة التي يحمل حقيبتها والتي تبدأ منذ تعيينه وزيرًا لها وتستمر حتى تنتهي بانتهاء عمله بها لأي سبب كان يفضى إلى زوال صفته الوزارية". ومن الواضح هنا أن المحكمة الدستورية ربطت بين انتهاء المسؤولية السياسية للوزير وبين زوال "صفته الوزارية"، وهذا الزوال لا يتحقق إلا في حالة "تخلي" الوزير عن منصبه، أما نقل الوزير المستجوب إلى وزارة أخرى فهو يعني احتفاظ الوزير المستجوب بصفته الوزارية، وبالتالي فإن مسؤوليته السياسية عن الأعمال التي قام بها إبان توليه الحقيبة السابقة على نقله لا يعفيه من المساءلة السياسية عن الأعمال التي قام بها والتي كانت محلا لاستجواب قدم إليه قبل نقله إلى وزارة أخرى. ولعله من المهم هنا الانتباه إلى أن "تدوير" الوزير ونقله إلى وزارة أخرى لا يترتب عليه سقوط الأسئلة البرلمانية التي وجهت إليه قبل نقله، فهذه الأسئلة بوصفها أداة رقابية تبقى سارية. كذلك الأمر لو كان مجلس الأمة قد شكل لجنة تحقيق في أمر من الأمور المتصلة بوزارة المالية، فإن نقل الوزير من تلك الوزارة إلى وزارة النفط لا يوقف أعمال تلك اللجنة ولا يسقط قرار المجلس بتشكيلها، فلماذا يسقط الاستجواب من دون بقية أدوات الرقابة البرلمانية؟
وقد يقال هنا أن المحكمة الدستورية قررت في القرار المشار إليه سلفا أنه "لا يجوز استجواب الوزير عن الأعمال السابقة التي صدرت منه قبل توليه الوزارة التي يحمل حقيبتها أيًا كانت صفته وقت صدورها". وبالتالي، وتطبيقا لهذه القاعدة، فإنه لا يجوز الاستمرار في الاستجواب المقدم إلى وزير المالية بعد أن حمل حقيبة وزارة النفط. بيد أن هذا القول مردود عليه بأن القاعدة التي قررتها المحكمة الدستورية هنا تعني عدم جواز تقديم استجواب لوزير عن أعمال قام به حين كان وزيرا لوزارة اخرى. بمعنى أنه لا يجوز اليوم استجواب وزير الاعلام الشيخ صباح الخالد، على سبيل المثال، عن أعمال قام بها حين كان وزيرا للشؤون الاجتماعية والعمل، وهذا صحيح. بيد أنه إذا كان قد تم تقديم الاستجواب قبل نقل الوزير المستجوب إلى وزارة أخرى، فإن الأمر هنا يختلف. فالاستجواب قدم لوزير المالية عن أعمال قام بها أثناء توليه تلك الوزارة ثم تم نقله إلى وزارة أخرى، فالعنصر الزمني في الاستجواب هنا متوافر حيث أن تقديم الاستجواب كان أسبق من نقل الوزير إلى وزارة أخرى، وما دامت المحاسبة السياسية للوزير قد بدأت فإنه من غير الجائز نقله من وزارته تحاشيا لتلك المساءلة، وإذ تم الالتفاف على تلك المساءلة من خلال نقل الوزير إلى وزارة أخرى فإنه ليس من شأن هذا النقل إعفاء الوزير المنقول من مسؤوليته السياسية، ولا يؤدي هذا النقل إلى سقوط الاستجواب تلقائيا، فالوزير لم يتخل عن صفته الوزارية وإنما ظل محتفظا بها.
ليس هذا فحسب بل أن الحكومة ذاتها تقر بهذه المسـألة. ففي المذكرة التي قدمتها للمحكمة الدستورية في طلب التفسير المشار إليه من قبل ذهبت الحكومة إلى أن "حق عضو مجلس الأمة في استجواب الوزير عن أعمال وزارته وإشرافه على شؤونها وتنفيذه للسياسة العامة للدولة ومن ثم مساءلته عنها ليس حقًا مطلقًا، وإنما يحده حين ممارسته قيد الاختصاص المستمد من نصوص الدستور بعناصره الأربعة". وبعد أن توضح العنصر الشخصي والعنصر الموضوعي، تذهب إلى أن العنصر الزماني يتحقق إذا كانت الأعمال والتصرفات موضوع المساءلة "داخله ضمن المدى الزمني الذي مارس فيه الوزير سلطاته، والتي تبدأ من تاريخ توليه الوزارة حتى زوال صفته كوزير". أي أن مذكرة الحكومة تقر بأن استمرار الصفة الوزارية يوفر العنصر الزماني، وأن هذا العنصر يستمر ما استمر الوزير محتفظا بصفته الوزارية. ومؤدى هذا القول أن الاستجواب لا يسقط لمجرد "نقل" الوزير المستجوب إلى وزارة أخرى، فبهذا النقل لا تزول الصفة الوزارية للوزير المستجوب، فهذه الصفة لا تزول إلا إذا استقال الوزير من منصبه، أي إذا تخلى عن منصبه الوزاري لا إذا انتقل إلى وزارة أخرى.
ولا مجال هنا للقياس على حالة الشيخ سعود الناصر الصباح الذي تم استجوابه حين كان وزيرا للاعلام ثم عين وزيرا للنفط. فالشيخ سعود الناصر لم يتم "تدويره" وإنما أعيد تعيينه بعد أن استقالت الحكومة وقبلت استقالتها فزالت الصفة الوزارية عنه بالتخلي عن منصبه الوزاري (الاستقالة) ثم أعيد تعيينه في الحكومة الجديدة. وليس في هذا التعيين مخالفة دستورية وإن كان يخضع لاعتبارات الملاءمة السياسية. أما في حالة بدر الحميضي فإنه لم يتخل عن منصبه الوزاري بعد الاستجواب وظل محتفظا بصفته الوزارية.
نخلص مما سبق إلى أن "تدوير" الوزراء بعد تقديم الاستجوابات من دون استقالتهم بهدف التحايل على المسؤولية السياسية وتحصين الوزير ضد المحاسبة والرقابة الشعبية، هو إجراء غير دستوري ومن شأنه انتهاك روح الدستور، وهو تجريد لنظامنا الدستوري من جوهره.
إن التعامل الدستوري السليم مع وضع وزير المالية السابق كان يتطلب منه تقديم استقالته مادام قد اختار عدم مواجهة الاستجواب، ثم تقبل استقالته، وبقبولها يكون الوزير المستجوب قد تخلى عن منصبه وزالت عنه صفته الوزارية، ومن ثم يسقط الاستجواب تلقائيا كما تنص على ذلك المادة 142 من لائحة مجلس الأمة. وبهذه الاستقالة تتحقق أهداف الرقابة البرلمانية وتنتج المسؤولية السياسية للوزراء أثرها المقصود. وإذا رأى رئيس الدولة بعد ذلك إعادة تعيين الوزير في منصب آخر رغم استقالته إثر توجيه استجواب له، فإن الأمر هنا يخضع لاعتبارات الملاءمة السياسية التي ترجح، من الناحية النظرية، عدم أعادة التعيين. بيد أن تقدير تلك الاعتبارات من الناحية العملية هنا بيد رئيس الدولة الذي له أن يتخذ قراره في إعادة التعيين.
في البداية لابد من الإشارة إلى أن الاستجواب هو من أهم أدوات الرقابة البرلمانية على أعمال الوزراء، وفيه تتجلى المسؤولية السياسية للوزير أمام مجلس الأمة. وفي هذا الصدد قررت المحكمة الدستورية في قرارها الصادر في طلب التفسير رقم 8 لسنة 2004 الصادر بتاريخ 9 أكتوبر 2006 والمتصل بتفسير المادة 100 من الدستور، أن حق الاستجواب "هو أكبر مظاهر ما للسلطة التشريعية من الرقابة على السلطة التنفيذية، إذ تتجلى فيه المسؤولية السياسية بأجلى مظاهرها، فالنظام الدستوري قائم على مبدأ المسؤولية الوزارية أمام المجلس النيابي وإشراك الأمة في إدارة شؤون البلاد والإشراف على وضع قوانينها ومراقبة تنفيذها ومدى التزام الحكومة في أعمالها وتصرفاتها بحدودها، والطريقة لتحقيق هذا المبدأ هي مناقشة الحكومة الحساب، وليس الاستجواب إلا محققًا لهذا الغرض".
وإذا كان الدستور ولائحة مجلس الأمة قد نظما إجراءات الاستجواب ومواعيد مناقشته ونتائجه، فإنه يلزم القول أن تطبيق النصوص الدستورية، أيا كان موضوعها، لا يتم بمعزل عن غاياتها وأهدافها، كما يجب أن يأتي هذا التطبيق منسجما مع روح الدستور وجوهره. وفي هذا الإطار ليس من اللائق إطلاقا ممارسة التحايل على نصوص الدستور أو السعي للالتفاف عليها. كما لا يليق بسلطات الدولة أن تتعمد، وعن بصر وبصيرة، إزهاق روح الدستور استجابة لدواعي الانفلات السياسي عبر انتهازية الفهم والتطبيق لنصوصه.
وقد قررت المحكمة الدستورية في قرارها التفسيري المشار إليه سلفا أنه "وإن كان لكل نص مضمون مستقل إلا أن ذلك لا يعزله عن باقي النصوص الأخرى، بل يتعين أن يكون تفسيره متساندًا معها، وذلك بفهم مدلوله على نحو يقيم بينها التوافق، وينأى بها عن التعارض، وبالنظر إليها بوصفها وحدة واحدة، متآلفة فيما بينها، متجانسة معانيها، متضافرة مراميها، يكمل بعضها بعضًا بما لا ينفلت معها متطلبات تطبيقها أو يحيد بها عن الغاية المقصودة منها، فالنصوص لا تفهم معزولة بعضها عن بعض، إنما تتأتى دلالة أي منها في ضوء ما تفيده دلالة النصوص الأخرى من معانٍ شاملة". كما قررت أيضا أن الدستور جعل " استعمال السلطات لوظائفها ينتظمه دائمًا التعاون المتبادل بينها على أساس احترام كل منها لأحكام الدستور، والنزول على أوامره ونواهيه".
وبإنزال القواعد السابقة على واقعة "تدوير" وزير المالية بعد تقديم استجواب له وإسناد حقيبة وزارة أخرى له من دون تقديم استقالته، يمكن القول أن هذا "التدوير" ليس إلا محاولة للتخلص من الرقابة البرلمانية وإلغاء فاعلية الاستجواب كأداة رقابية. ولو قلنا بجواز هذا الأمر فإن المحصلة النهائية له هو الحيلولة بين مجلس الأمة واستجواب الوزراء. فمعنى إجازة "التدوير" في حالة وزير المالية هو أنه يمكن للحكومة مواجهة كل استجواب يقدم لوزير عن طريق "تدويره" وبذلك لن يتم في الواقع استجواب أي وزير إطلاقا، وتضحى الرقابة البرلمانية بلا معنى ومجرد نصوص فارغة لا قيمة عملية لها. وقد قررت المحكمة الدستورية في القرار المشار إليه "أن رقابة مجلس الأمة على أعمال الحكومة وتصرفاتها - والتي تتجسد صورها المتعددة وأدواتها في السؤال والاستجواب والتحقيق - هي من مظاهر التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ومن مقتضيات النظام الدستوري، ومن خصائصه الجوهرية، ومستلزماته الذي يقوم على أساسه نظام الحكم، متخذًا هذا النظام من مبدأ المسؤولية السياسية الفردية للوزراء أمام مجلس الأمة وتحديدا مسؤولية كل منهم عن أعماله خيارًا، فحسب الأمة أن الوزراء مسؤولون أمام نوابها، جاعلاً من ذلك إطارًا يوفر للحكم طابعه الشعبي".
وعلى هدي هذا التصوير يمكن القول بلا تردد أن أي سلوك تقوم به أي سلطة يقود نحو تفريغ النظام الدستوري من مقتضياته وتجريده من خصائصه الجوهرية، ومن أهمها المسؤولية السياسية الفردية للوزراء، هو سلوك يخرج عن إطار الدستورية. ولا يسعف الحكومة هنا القول بأنه لا يوجد نص في الدستور يمنع "تدوير" الوزير المستجوب، "فعدم" وجود نص صريح مباشر يمنع التصرف لا يؤدي إلى إباحة التصرف، ذلك أن النصوص الدستورية متساندة ولها غاية لا يجوز تجاهلها وإهدارها تحت أي حجة أو ذريعة. وإذا كان النظام الدستوري الكويتي "قائم على مبدأ المسؤولية الوزارية أمام المجلس النيابي وإشراك الأمة في إدارة شؤون البلاد والإشراف على وضع قوانينها ومراقبة تنفيذها ومدى التزام الحكومة في أعمالها وتصرفاتها بحدوده" كما تقرر المحكمة الدستورية، فإن "عدم" وجود نص "يمنع" تدوير الوزير المستجوب لا يبيح إهدار مبدأ المسؤولية الوزارية التي لا تتحقق إلا من خلال تمكين مجلس الأمة من محاسبة الوزير. فالرقابة البرلمانية من الخصائص الجوهرية لنظامنا الدستوري، ولا يجوز، بحال من الأحوال، تفريغها من مضمونها والالتفاف على أحكامها والتحايل عليها وتجريد مجلس الأمة من سلطاته.
وإذا فحصنا نصوص لائحة مجلس الأمة المنظمة للاستجواب نجد أن المادة 142 منها تنص على أنه "يسقط الاستجواب بتخلي من وجه إليه الاستجواب عن منصبه.." وقد يقال ان "تدوير" الوزير المستجوب هو من قبيل التخلي عن المنصب، وبالتالي فإن "التدوير" أمر جائز ويؤدي إلى سقوط الاستجواب. غير أن هذا الفهم لنص المادة المشار إليها فهم قاصر. فالتخلي عن المنصب لا يعني التخلي عن الحقيبة الوزارية والانتقال إلى حقيبة أخرى، إنما المقصود بالتخلي هنا التخلي عن المنصب الوزاري، أي خروج الوزير المستجوب من الوزارة نهائيا. ودليلنا على ذلك أن المشرع الدستوري حين استخدم كلمة "التخلي" في المادة 103 من الدستور إنما كان يشير إلى زوال الصفة الوزارية. فقد نصت تلك المادة على أنه "إذا تخلى رئيس مجلس الوزراء أو الوزير عن منصبه لأي سبب من الأسباب يستمر في تصريف العاجل من شؤون منصبه لحين تعيين خلفه". فالمعنى الدستوري للتخلي عن المنصب هو زوال الصفة الوزارية لا شغل حقيبة وزارية أخرى. وهذا هو الاتجاه الذي تبنته المحكمة الدستورية، فبعد أن أشارت تلك المحكمة إلى الأساس القانوني للاستجوابات وبينت عناصرها الموضوعية والزمنية، قررت في قرارها المشار غليه من قبل أن الأساس القانوني لحق الاستجواب هو "الرغبة في تحقيق المسؤولية الوزارية السياسية أمام المجلس النيابي بطريقة فعالة، وبعبارة أخرى تحقيق رقابة الأمة على أعمال وأداء الحكومة". وأوضحت المحكمة أن مقتضى العنصر الزمني في الاستجواب هو "أن تكون الأعمال والتصرفات المراد استجواب الوزير عنها قد صدرت منه أو من أحد الأشخاص التابعين له بصفته هذه خلال فترة ولايته للوزارة التي يحمل حقيبتها والتي تبدأ منذ تعيينه وزيرًا لها وتستمر حتى تنتهي بانتهاء عمله بها لأي سبب كان يفضى إلى زوال صفته الوزارية". ومن الواضح هنا أن المحكمة الدستورية ربطت بين انتهاء المسؤولية السياسية للوزير وبين زوال "صفته الوزارية"، وهذا الزوال لا يتحقق إلا في حالة "تخلي" الوزير عن منصبه، أما نقل الوزير المستجوب إلى وزارة أخرى فهو يعني احتفاظ الوزير المستجوب بصفته الوزارية، وبالتالي فإن مسؤوليته السياسية عن الأعمال التي قام بها إبان توليه الحقيبة السابقة على نقله لا يعفيه من المساءلة السياسية عن الأعمال التي قام بها والتي كانت محلا لاستجواب قدم إليه قبل نقله إلى وزارة أخرى. ولعله من المهم هنا الانتباه إلى أن "تدوير" الوزير ونقله إلى وزارة أخرى لا يترتب عليه سقوط الأسئلة البرلمانية التي وجهت إليه قبل نقله، فهذه الأسئلة بوصفها أداة رقابية تبقى سارية. كذلك الأمر لو كان مجلس الأمة قد شكل لجنة تحقيق في أمر من الأمور المتصلة بوزارة المالية، فإن نقل الوزير من تلك الوزارة إلى وزارة النفط لا يوقف أعمال تلك اللجنة ولا يسقط قرار المجلس بتشكيلها، فلماذا يسقط الاستجواب من دون بقية أدوات الرقابة البرلمانية؟
وقد يقال هنا أن المحكمة الدستورية قررت في القرار المشار إليه سلفا أنه "لا يجوز استجواب الوزير عن الأعمال السابقة التي صدرت منه قبل توليه الوزارة التي يحمل حقيبتها أيًا كانت صفته وقت صدورها". وبالتالي، وتطبيقا لهذه القاعدة، فإنه لا يجوز الاستمرار في الاستجواب المقدم إلى وزير المالية بعد أن حمل حقيبة وزارة النفط. بيد أن هذا القول مردود عليه بأن القاعدة التي قررتها المحكمة الدستورية هنا تعني عدم جواز تقديم استجواب لوزير عن أعمال قام به حين كان وزيرا لوزارة اخرى. بمعنى أنه لا يجوز اليوم استجواب وزير الاعلام الشيخ صباح الخالد، على سبيل المثال، عن أعمال قام بها حين كان وزيرا للشؤون الاجتماعية والعمل، وهذا صحيح. بيد أنه إذا كان قد تم تقديم الاستجواب قبل نقل الوزير المستجوب إلى وزارة أخرى، فإن الأمر هنا يختلف. فالاستجواب قدم لوزير المالية عن أعمال قام بها أثناء توليه تلك الوزارة ثم تم نقله إلى وزارة أخرى، فالعنصر الزمني في الاستجواب هنا متوافر حيث أن تقديم الاستجواب كان أسبق من نقل الوزير إلى وزارة أخرى، وما دامت المحاسبة السياسية للوزير قد بدأت فإنه من غير الجائز نقله من وزارته تحاشيا لتلك المساءلة، وإذ تم الالتفاف على تلك المساءلة من خلال نقل الوزير إلى وزارة أخرى فإنه ليس من شأن هذا النقل إعفاء الوزير المنقول من مسؤوليته السياسية، ولا يؤدي هذا النقل إلى سقوط الاستجواب تلقائيا، فالوزير لم يتخل عن صفته الوزارية وإنما ظل محتفظا بها.
ليس هذا فحسب بل أن الحكومة ذاتها تقر بهذه المسـألة. ففي المذكرة التي قدمتها للمحكمة الدستورية في طلب التفسير المشار إليه من قبل ذهبت الحكومة إلى أن "حق عضو مجلس الأمة في استجواب الوزير عن أعمال وزارته وإشرافه على شؤونها وتنفيذه للسياسة العامة للدولة ومن ثم مساءلته عنها ليس حقًا مطلقًا، وإنما يحده حين ممارسته قيد الاختصاص المستمد من نصوص الدستور بعناصره الأربعة". وبعد أن توضح العنصر الشخصي والعنصر الموضوعي، تذهب إلى أن العنصر الزماني يتحقق إذا كانت الأعمال والتصرفات موضوع المساءلة "داخله ضمن المدى الزمني الذي مارس فيه الوزير سلطاته، والتي تبدأ من تاريخ توليه الوزارة حتى زوال صفته كوزير". أي أن مذكرة الحكومة تقر بأن استمرار الصفة الوزارية يوفر العنصر الزماني، وأن هذا العنصر يستمر ما استمر الوزير محتفظا بصفته الوزارية. ومؤدى هذا القول أن الاستجواب لا يسقط لمجرد "نقل" الوزير المستجوب إلى وزارة أخرى، فبهذا النقل لا تزول الصفة الوزارية للوزير المستجوب، فهذه الصفة لا تزول إلا إذا استقال الوزير من منصبه، أي إذا تخلى عن منصبه الوزاري لا إذا انتقل إلى وزارة أخرى.
ولا مجال هنا للقياس على حالة الشيخ سعود الناصر الصباح الذي تم استجوابه حين كان وزيرا للاعلام ثم عين وزيرا للنفط. فالشيخ سعود الناصر لم يتم "تدويره" وإنما أعيد تعيينه بعد أن استقالت الحكومة وقبلت استقالتها فزالت الصفة الوزارية عنه بالتخلي عن منصبه الوزاري (الاستقالة) ثم أعيد تعيينه في الحكومة الجديدة. وليس في هذا التعيين مخالفة دستورية وإن كان يخضع لاعتبارات الملاءمة السياسية. أما في حالة بدر الحميضي فإنه لم يتخل عن منصبه الوزاري بعد الاستجواب وظل محتفظا بصفته الوزارية.
نخلص مما سبق إلى أن "تدوير" الوزراء بعد تقديم الاستجوابات من دون استقالتهم بهدف التحايل على المسؤولية السياسية وتحصين الوزير ضد المحاسبة والرقابة الشعبية، هو إجراء غير دستوري ومن شأنه انتهاك روح الدستور، وهو تجريد لنظامنا الدستوري من جوهره.
إن التعامل الدستوري السليم مع وضع وزير المالية السابق كان يتطلب منه تقديم استقالته مادام قد اختار عدم مواجهة الاستجواب، ثم تقبل استقالته، وبقبولها يكون الوزير المستجوب قد تخلى عن منصبه وزالت عنه صفته الوزارية، ومن ثم يسقط الاستجواب تلقائيا كما تنص على ذلك المادة 142 من لائحة مجلس الأمة. وبهذه الاستقالة تتحقق أهداف الرقابة البرلمانية وتنتج المسؤولية السياسية للوزراء أثرها المقصود. وإذا رأى رئيس الدولة بعد ذلك إعادة تعيين الوزير في منصب آخر رغم استقالته إثر توجيه استجواب له، فإن الأمر هنا يخضع لاعتبارات الملاءمة السياسية التي ترجح، من الناحية النظرية، عدم أعادة التعيين. بيد أن تقدير تلك الاعتبارات من الناحية العملية هنا بيد رئيس الدولة الذي له أن يتخذ قراره في إعادة التعيين.